الخيال السياسي في الإعلام المصري: بين الأوهام والتضليل

31
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل.

• في السنوات الأخيرة، شهدنا انتشارًا لعدد من الروايات السياسية المبالغ فيها داخل بعض وسائل الإعلام المصرية، حيث يتم الترويج لمفاهيم لا تستند إلى أي أساس واقعي، مثل «عودة السودان إلى مصر»، أو «اختفاء إثيوبيا من الخريطة»، أو حتى سيناريوهات مثل «تحطم سد النهضة بضربة واحدة»، و»انهيار قطر خلال 48 ساعة»، و»تركيا على وشك التفكك». هذه السرديات ليست جديدة، بل أصبحت نهجًا متكررًا لبعض الإعلاميين الذين يروجون للأوهام وكأنها حقائق مؤكدة، مما يثير تساؤلات جدية حول مدى مصداقية الإعلام المصري، وأثر هذه الادعاءات على صورة مصر الإقليمية.

أمثلة على الخيالات السياسية المتداولة:

1. السودان سيعود إلى مصر قريبًا!

ظهر هذا الادعاء في عدة برامج تلفزيونية وتصريحات إعلاميين مصريين، يزعمون أن السودان يواجه انهيارًا تامًا، وأنه لا مفر له إلا بالعودة إلى مصر. أحد أبرز مروجي هذا الطرح هو الإعلامي أحمد موسى، الذي تحدث في أكثر من مناسبة عن «الروابط التاريخية بين مصر والسودان»، مع الإيحاء بأن عودة السودان إلى مصر قد تكون «أمرًا طبيعيًا» في المستقبل القريب. في الواقع، لا توجد أي مؤشرات سياسية أو قانونية تدعم هذا السيناريو، بل على العكس، السودان اليوم يُكافح للحفاظ على وحدته وسط الصراعات الداخلية، ومن غير المنطقي تصور أنه سيقبل بالتنازل عن سيادته لمصر.

2. إثيوبيا ستختفي من الخريطة!

هذا الادعاء من أكثر الادعاءات غرابة، حيث ظهر في أكثر من مرة عبر تصريحات إعلاميين مصريين، بينهم نشأت الديهي، الذي قال إن «إثيوبيا تتجه نحو التفكك بسبب النزاعات الداخلية»، وأن «مصر ليس عليها فعل شيء سوى الانتظار حتى تنهار إثيوبيا ذاتيًا». في حين أن إثيوبيا تمر فعلًا بأزمات سياسية وصراعات داخلية، فإنها لا تزال دولة قوية تمتلك موارد ضخمة وعلاقات دولية داعمة، كما أن التاريخ يثبت أن الدول التي تمر بأزمات لا تختفي ببساطة من الخريطة.

3. الجيش المصري قادر على تدمير سد النهضة في دقائق!

هذا الطرح يتم تكراره بشكل مستمر في بعض البرامج التلفزيونية المصرية، حيث يروج البعض أن مصر تستطيع توجيه «ضربة خاطفة» لسد النهضة الإثيوبي وإنهائه خلال ساعات. الإعلامي توفيق عكاشة كان من أوائل من رددوا هذا الادعاء، قائلًا إن «السد يمكن أن يُمحى بضربة واحدة»، وهو أمر بعيد كل البعد عن الواقع العسكري والاستراتيجي. في الحقيقة، أي ضربة عسكرية على السد ستكون لها تداعيات كارثية، ليس فقط على إثيوبيا، بل أيضًا على السودان الذي يعتمد على مياه النيل الأزرق. كما أن مصر تتبع نهجًا دبلوماسيًا لحل الأزمة، مما يجعل هذه التهديدات الإعلامية مجرد استهلاك داخلي بدون قيمة فعلية.

4. انهيار قطر خلال 48 ساعة!

خلال الأزمة الخليجية عام 2017، امتلأت الشاشات المصرية بتوقعات غير واقعية عن قرب انهيار دولة قطر اقتصاديًا وسياسيًا، بل ذهب البعض إلى القول إن «الأسرة الحاكمة القطرية ستهرب خلال أيام». الإعلامي عمرو أديب كان أحد أبرز من روجوا لهذا الطرح، حيث قدم سيناريوهات تتخيل «سقوط الدوحة بضغط خليجي». لكن رغم المقاطعة الخليجية، لم تنهَر قطر، بل استطاعت التكيف اقتصاديًا واستراتيجيا، وعادت العلاقات إلى طبيعتها بعد المصالحة الخليجية عام 2021.

5. تركيا ستتفكك قريبًا!

هذا الادعاء يتم تكراره منذ سنوات في الإعلام المصري، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016. الإعلاميون المصريون مثل مصطفى بكري وأحمد موسى اعتادوا الحديث عن «سقوط نظام أردوغان الوشيك»، وأن «تركيا على حافة الانهيار الاقتصادي والسياسي». ولكن تركيا استمرت في النمو، وواجهت تحدياتها الاقتصادية بطرق متعددة، بينما ظل نظام أردوغان في الحكم حتى الآن.

لماذا تُروَّج هذه السرديات؟

1. إثارة المشاعر الوطنية:

بعض الإعلاميين يلجؤون إلى هذه القصص بهدف تغذية الشعور القومي وتحفيز العاطفة الوطنية، عبر تقديم مصر كقوة عظمى قادرة على فرض إرادتها على جيرانها.

2. الإلهاء عن القضايا الداخلية:

عندما يواجه الشارع المصري تحديات اقتصادية أو اجتماعية، يتم الترويج لمثل هذه الروايات لصرف الانتباه عن الأزمات الحقيقية، وإقناع الجمهور بأن «أعداء الخارج» هم المشكلة الأساسية.

3. تحقيق نسب مشاهدة عالية:

الإعلام القائم على الإثارة يجذب المزيد من المشاهدين، وبالتالي يحقق أرباحًا إعلانية أعلى.

التأثير السلبي لهذه الروايات:

1. تدمير صورة الإعلام المصري دوليًا

هذه السرديات تجعل الإعلام المصري يبدو غير جاد، مما يفقده المصداقية أمام الجمهور المحلي والدولي. الكثير من الجهات الدولية تراقب هذا النوع من الخطاب، ويؤدي ذلك إلى تراجع ثقة العالم في التحليلات الإعلامية المصرية.

2. الإضرار بالعلاقات الإقليمية

مثل هذه التصريحات تخلق توترًا بين مصر وجيرانها، خاصة عندما يتم الترويج لأفكار تمس سيادة الدول الأخرى. على سبيل المثال، الحديث المتكرر عن عودة السودان إلى مصر قد يُنظر إليه كإهانة للسيادة السودانية، بينما تهديد إثيوبيا باستمرار قد يزيد من تعقيد العلاقات بين البلدين.

3. تضليل الرأي العام المحلي

عندما يصدق الجمهور هذه الأوهام، يصبح غير قادر على فهم الواقع الجيوسياسي الحقيقي، مما يخلق فجوة بين التوقعات والواقع. وهذا بدوره يؤدي إلى الإحباط الجماعي عندما لا تتحقق هذه النبوءات الإعلامية.

المطلوب من الإعلام المصري:

1. احترام عقول المشاهدين.

o يجب على الإعلاميين المصريين الابتعاد عن التهويل والمبالغة، وتقديم تحليل واقعي يستند إلى الحقائق وليس الأمنيات.

2. تبني خطاب مسؤول

o عوضًا عن نشر قصص خيالية، ينبغي التركيز على الحلول الفعلية للقضايا الإقليمية، وتشجيع الدبلوماسية بدلاً من التهديدات الفارغة.

3. تعزيز المهنية الإعلامية:

يجب تطبيق معايير الصحافة المهنية، والتأكد من صحة المعلومات قبل نشرها، وعدم استغلال المشاعر الوطنية لتحقيق مكاسب إعلامية آنية.

الخيال السياسي قد يكون ممتعًا في الروايات والأفلام، لكنه لا يصلح أن يكون أساسًا للإعلام الجاد. إذا استمر الإعلام المصري في الترويج لمثل هذه الأوهام، فسيفقد جمهوره ومصداقيته، وسيؤثر سلبًا على صورة مصر عالميًا. العالم اليوم أصبح أكثر وعيًا، والجمهور لم يعد يستهلك الإعلام كما كان في الماضي، بل أصبح يبحث عن المعلومات الموثوقة. لهذا، يجب أن يكون الإعلام المصري أكثر وعيًا بمسؤوليته، وأن يحترم عقول المشاهدين، سواء داخل مصر أو في العالم العربي والإفريقي.


شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *