معتصم تاج السر

م. معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• في زحمةِ الخرابِ ووسطَ الغبارِ الذي يملأ سماءَ المدنِ المنكوبةِ في السودانِ، تتكشّفُ حقيقةٌ مُرّةٌ…!

لا عن الحربِ وحدها، بل عن الإنسانِ نفسِهِ…!

عن ذلك الذي نجا منها وابتعدَ بجسدِهِ لكنَّه ترك قلبَه في النيرانِ.

الذي ترك روحَه في وطنِهِ وهو يموتُ عشراتَ المرّاتِ حسرةً وكَمَدًا، ومنهم من مات حقًّا من الأسى على السودانِ وأهلِهِ، إذ لم يحتمل قلبُه أن يرى ترابَ الوطنِ يُدنّس، ودماءَ الأبرياءِ تُهدر، والأحلامَ تتساقطُ واحدةً تلوَ الأخرى كأوراقِ الخريفِ.

وهنالك ثَمّةَ فئة من الناسِ آمنين من الحربِ تُلوّحُ بشعاراتِ النصرِ وتؤجِّجُ نارَها عن بُعدٍ…!

كما لو كانتِ الحربُ عرضاً سينمائيّاً يُشاهدونه من مقاعدِ الوثوقِ والأمانِ.

تراهم يُبرّرون، يتفلسفون، يُخطِّطون، يكتبون البياناتِ الطويلةَ والوسومَ القصيرةَ…!

وكلُّ ذلك من خلفِ الجدرانِ العاليةِ، 

حيث لا يُسمعُ الرصاصُ ولا يُشمُّ حريقُ الجثامينِ، ولا تُرى الدموعُ وهي تحاولُ أن تتجلّدَ في عيونِ الأطفالِ.

هؤلاء يعيشون ما يمكن أن نُسمِّيه «الخلاصَ الفرديَّ»، حالةً من الأنانيةِ المغلّفةِ بالخطابِ الوطنيِّ الزائفِ.

يظنّون أن نجاتَهم الخاصّةَ هي انتصارٌ، وأن بقاءَ النارِ مشتعلةً في بيوتِ الآخرينَ لا يعنيهم ما دام سقفُهم آمناً.

لكنَّ الحقيقةَ أن لا خلاصَ في وطنٍ يحترقُ، ولا راحةَ في مدنٍ يجاورها العذابُ.

أمّا أولئك الذين ما زالوا في قلبِ المأساةِ في مدنِ الدمارِ والدّمعِ، فهم التوّاقون الحقيقيّون إلى السلامِ.

يعرفون أن كلَّ هدنةٍ مهما كانت هشّةً تعني لحظةَ تنفّسٍ لطفلٍ، وعلاجَ مصابٍ، وتوفّرَ لقمةِ طعامٍ، واستراحةً قصيرةً لأمٍّ، وعودةً مؤقتةً لابتسامةٍ على وجهِ عجوزٍ كان يظنُّ أن الموتَ قد غابَ قليلاً.

هم لا يبحثون عن انتصاراتٍ سياسيةٍ، ولا سلطةٍ، ولا مكاسبَ فكريةٍ، بل عن السكينةِ، عن الأمانِ البسيطِ الذي يُعيدُ للإنسانِ إنسانيّتَه.

بل حتى المقاتلين في الميدانِ، أولئك الذين حملوا أرواحَهم على أكفّهم دفاعاً عن الوطنِ، يتمنّون السلامَ قبل غيرهم.

يعرفون ثمنَ الحربِ أكثرَ من الجميعِ، فقد عاينوا النارَ بأعينِهم، ودفنوا رفاقَهم بأيديهم، وتعلّموا أن أعظمَ الانتصاراتِ ليست في كسرِ العدوِّ، بل في بقاءِ الوطنِ حيًّا، آمناً، موحّداً.

نعم… قد يختلفُ الناسُ في الوسائلِ، في الآلياتِ، وفي المراقبةِ والضماناتِ لأيِّ هدنةٍ، وفي متى يبدأ النزاعُ ومتى ينتهي.

لكن الغايةَ واحدةٌ لا يختلفُ عليها إلّا من انطفأ ضميرُه وهي أن يعودَ السلامُ.

فالسلامُ ليس موقفاً سياسيّاً، بل غريزةٌ إنسانيةٌ أقدمُ من كلِّ الأيديولوجياتِ، موجودةٌ حتى في الحيوانِ.

تأمّلِ الطيرَ كيف يبحثُ عن غصنٍ آمنٍ ليبيتَ عليه، وتأمّلِ القطَّ كيف يلتفُّ حول صغارِهِ حين يسمعُ صوتَ الخطرِ…!

كلُّها كائناتٌ تعرفُ بالفطرةِ أن الحياةَ لا تزدهرُ إلّا في ظلِّ الطمأنينةِ.

ما الذي أصابَ الإنسانَ حتى صارَ يحتفي بالحربِ من بعيدٍ..!؟

أيُّ انقسامٍ في الروحِ جعلَه يرى الدمَ ويقولُ: «ليس دمي»؟

لقد تحوّلَ الخلاصُ الفرديُّ إلى مرضٍ جماعيٍّ يهدّدُ معنى الوطنِ ذاته.

لأنَّ الوطنَ لا يقومُ على بقاءِ الأحياءِ فحسب، بل على حياةٍ مشتركةٍ في الأمانِ والكرامةِ.

فلن يكونَ أحدُنا بخيرٍ ما دامَ أحدُنا يموتُ.

ولن يكونَ هناك خلاصٌ فرديٌّ… إلّا في الخيالِ…!!!

ولن يكونَ هناك موطئُ قدمٍ أو غطاءٌ لمن تلطّخت أيديهم بدماءِ وأعراضِ وأموالِ السودانيين، فمكانُهم العادلُ هو المحاكمُ النزيهةُ والزنازينُ المظلمةُ لمن تثبتُ إدانتُهم، لا مكان لهم بين الجدرانِ التي تُبنى عليها أحلامُ الناسِ وكرامتُهم.

ومهما اختلفتِ الأيديولوجيّاتُ،

يجب أن تبقى مصلحةُ الوطنِ والمواطنِ وأمنُ السودانِ القوميِّ والمحافظة على جيشه ومؤسساته الأمنية والشرطية والعدلية، وإنصافُ الضحايا والحقوقُ هي مشتركاتُنا الكبرى التي لا تتبدّلُ.

نختلفُ بمحبّةٍ في حضنِ الوطنِ الكبيرِ، كما تتباينُ ألوانُ الأزهارِ في الحديقةِ الواحدةِ، كلٌّ يُضفي جمالَه بطريقتِه.

لكن لا يخفى على أحدٍ مساوئُ هذه الحربِ، ولا ما ارتكبه الدعم السريع من جرائمَ، فجرحُ السودانِ واحدٌ، والدمُ الذي نزفَ على ترابِهِ لا لونَ له إلّا لونُ الوطنِ.

إنّها دعوةٌ صادقةٌ لكلِّ من يملكُ ضميراً أو كلمةً أو سلطةً أو قلباً نابضاً، أن نرفعَ جميعاً صوتَنا:

أوقفوا الحربَ…!

بما يحفظُ أرواحَ وعزّةَ السودانيين، وبما يصونُ وحدةَ أرضِهم وكرامةَ إنسانِهم.

اللهمَّ اجعلِ السلامَ في السودانِ واقعاً لا شعاراً. 

اللهمَّ احقنِ الدماءَ، وآوِ المشردينَ، واشفِ الجرحى. 

اللهمَّ اجمعِ القلوبَ على الخيرِ، وردَّ الوطنَ إلى حضنِ الأمنِ والمحبّةِ. 

اللهمَّ وفّقْ قادتَنا وحكّامَنا إلى سبيلٍ يحفظُ الدماءَ ويصونُ وحدةَ السودانِ وأرضَه وعزته.

يا ربَّ إنّك على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

آمين،،،

محبّتي والسلام

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *