الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• في كل مرة تتعرض فيها مليشيا الدعم السريع لضربات عسكرية موجعة على الجبهات، تتحول غريزتها التخريبية نحو ما هو أسهل: بيوت المدنيين العزل، محطات الكهرباء، خزانات المياه، وشبكات الاتصالات. ليست هذه سوى تكتيكات جبانة لعصابة تدرك أنها تخسر الحرب، فتحاول تعويض هزائمها بإيقاع الأذى بالمدنيين، وكأنها تصرخ بكل حقد: (إذا لم نتمكن من البقاء، فلن نترك لكم حياة!).
لكن الغريب في المشهد السوداني اليوم ليس همجية المليشيا بقدر ما هو صلابة المواطنين الذين يحولون المأساة إلى ملحمة صمود يومي. ففي الأحياء التي تتحول إلى ظلام بعد استهداف محولات الكهرباء، تسمع أصوات السُّمار والمولدات تعلو، كأنها تصفيق سخرية في وجه المرتزقة. وفي الأزقة التي تنقطع عنها المياه، ترى طوابير النساء والأطفال يحملون الجرادل بابتسامة تقول: (سنملأها مرة أخرى). حتى الأسواق التي تحترق يعاد بناؤها في أيام بالضجيج والعجيج، كأنها رسالة مفادها أنَّ الحياة أقوى من كل قذائف الجبناء.
ما تفعله المليشيا ليس حرباً عسكرية، بل هو انتقام من فكرة الوطن نفسه. عندما تقصف خزانات المياه في عز الحوجة، أو تشنَّ هجمات متعمدة على محطات الكهرباء في ليالي الامتحانات، فإنها تعلن بصراحة أنها تعادي حتى الهواء الذي يتنفسه الناس. لكنها نسيت أن السودانيين تعلموا في مدرسة الثورات أن الخراب الذي لا يقصد سوى كسر الإرادة، غالباً ما يصنع إرادةً لا تعرف الصدع.
في الفاشر والدبة، وفي كل مدينة تصلها أيادي التخريب، ثمة مشهد متكرر: رجال ونساء يربطون الأمل حول الأبنية المنكسرة، يصلحون النفوس المحترقة بأيد حانية، وينقلون الماء دلواً بدلو كأنهم يسقون شجرة الحياة ذاتها. هؤلاء لا ينتظرون إنقاذاً إلا من الواحد القهار، لأنهم أدركوا أنَّ المعركة الحقيقية ليست مع مليشيا تأتي وتزول، بل مع يأس قد يخترق القلوب.
اليوم، بينما تستمر مسيَّرات الجنجويد ومن شايعهم، في تسديد ضرباتها الحقودة، فإنَّ أصوات الضحكات في الشاي المبكر، وأزيز ورش العمل الصغيرة، وضجيج الصفوف الدراسية تحت الأشجار، تشكل أجوبة عملية على سؤال المليشيا الوحشي: (هل ما زلتم موجودون؟). الجواب يأتي كل يوم من طبيب يعالج المرضى بضوء الهاتف، ومن معلم يقسو عليه الحر فيفرش كرسيه تحت ظل حائط، ومن أم تستيقظ قبل الفجر لتخبز رغيف العيش قبل انقطاع الكهرباء. فالحقد الأعمى المدعوم بالمسيَّرات، لن يمنع طفلنا الساري تبسماً إلى روضته، ولا أمّاً من إطعام أبنائها بلا فزع، ولا تحظر أباً من أن يخرج من مسجد الحي ليغمغم بمسبحته آناء الليل وأطراف النهار آمناً مطمئناً. ولا من أن تأتي الغبطة من أصوات الضحكات في الأفراح، وزغاريد النساء في حفلات الختان، وحلقات الذكر في المآتم، فهي تشكل أجوبة مدوية على كل محاولات كسر الروح المجتمعية. الجواب يأتي كل يوم من عريس يرقص تحت أنوار الشموع، ومن أسرة تقيم وليمة العزاء على إضاءة قلوبها البيضاء.
الدرس الذي تتعلمه المليشيا يوماً بعد يوم، هو أنَّ شعباً يرفض أن يكون ضحية لا يمكن هزيمته. قد يحرقون المحطات، لكنهم لن يحرقوا عزيمة من يعيد بناءها. قد يقطعون الطرق، لكنهم لن يمنعوا سير الحياة. فالشعب السوداني، وبكل جراحه، يكتب هذه الأيام فصلاً جديداً من ملحمته القديمة: (نحن أبناء النيل.. والماء لا يخشى النار).

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *