الخذلان ومرارته: جرح الروح العميق

35
نجيب يماني

نجيب عصام يماني

كاتب صحفي سعودي

• الخذلان ليس مجرد فعل عابر، ولا كلمة تقال في لحظة غضب، بل هو حالة وجدانية عميقة، جرح غائر يصيب الروح قبل أن يمس الجسد، ويترك في النفس أثراً قد لا يندمل مهما مرّ من زمن. هو تلك اللحظة التي يتكسر فيها زجاج الثقة على صخرة الواقع، فيتحول الأمان الذي أُعطي بسخاء إلى خوف، والود إلى حذر، والحب إلى ألم دفين.

معنى الخذلان في وجدان الإنسان

حين يخذلك شخص وضعت فيه كل ثقتك، وأهديته محبة صافية ووداً خالصاً، فإنك لا تشعر بخسارة شخص فحسب، بل بخيانة لجزء أصيل من قلبك الذي صدّق الوعد وآمن بالعهود. الخذلان هنا يتجاوز الشخص الذي قام به، ليضرب جذور الإيمان الإنساني بالآخرين، فيجعل المخذول يتساءل: هل الثقة قيمة زائفة؟ وهل الحب مجرد سراب؟

إنها مرارة لا تذوقها الحواس، بل يتجرعها القلب والروح في صمت موجع، كأنها سم يتسرب ببطء إلى عروق الحياة.

هل الخذلان فطرة أم اكتساب؟

الخذلان ليس صفة تولد مع الإنسان، وإنما هو سلوك مكتسب يتشكل من بيئة وتجارب وخيارات. الإنسان يولد على الفطرة، ميالاً إلى الصدق والوفاء، لكن التواءات الحياة قد تدفع البعض إلى التنكر للعهود ونقض المواثيق. وقد يأتي الخذلان بدافع المصلحة، أو من ضعف في النفس، أو من قلب لم يعرف قيمة الحب والثقة.

ومن هنا نفهم أن الخذلان فعل اختياري، وليس قدراً محتوماً؛ إنه قرار يتخذه الخاذل حين يقدّم أنانيته على وفائه، ومصلحته على إنسانيته.

رد فعل المخذول

رد فعل المخذول يختلف باختلاف طباع البشر وعمق الجرح:

فهناك من يتقوقع على ذاته، فيغلق أبواب قلبه ويرفض منح الثقة من جديد، فيعيش أسيراً لجدران من الشك والخوف.

وهناك من يحاول التماسك، فيحوّل الخذلان إلى درس قاسٍ يجعله أكثر وعياً وصلابة، وإن كان ذلك على حساب جزء من براءته.

وهناك من يسامح، لا ضعفاً وإنما تجاوزاً، لأنه يدرك أن الغرق في مرارة الخذلان لا يجدي، وأن التسامح هو السبيل الوحيد لاستعادة طمأنينة القلب.

ومع ذلك، يبقى الأثر غائراً: فالمخذول لا ينسى بسهولة، لأن الخذلان يترك ندبة في الروح، حتى لو شُفي الجرح.

الآثار البعيدة للخذلان

الخذلان يغيّر الإنسان في العمق:

يزرع في قلبه ريبة من الآخرين.

يطفئ شيئاً من حماسه للحياة والعلاقات.

قد يجعله يتردد في منح الحب والثقة من جديد.

لكنه أحياناً يصنع منه إنساناً أكثر حكمة، وأكثر إدراكاً لقيمة الوفاء.

فالخذلان أشبه بامتحان للروح: إما أن يحطمها، وإما أن يعيد صياغتها بقوة وصلابة.

الخذلان، في جوهره، ليس ضعفاً في المخذول بل انكسار في الخاذل. فالمخذول قد أحب وأوفى وصدق، وهذه صفات القوة والإنسانية. أما الخاذل فقد خان ونقض العهد، وهذه هي علامات الضعف والأنانية.

الخذلان، مهما كانت مرارته، يعلّمنا أن الثقة أثمن ما نملك، وأن منحها لا يكون إلا بوعي، وأن القلوب الصافية تظل أرفع شأناً من أولئك الذين اعتادوا كسرها.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *