الحَربُ القَادِمَةُ.. حَربُ الدَّواءِ

455
ناجي الجندي

د. ناجي الجندي

كاتب صحفي

• الذي يبحث عن الحقيقة يبحث عن العلاج، أما الذي يبحث عن كاتب الحقيقة، فهو نفسه المجرم الذي يريد أن يستغل منصبه ليكمم الأفواه. والحقيقة تعلو ولا يعلى عليها وإن رغب عنها الراغبون.

في يناير 2024 (أندبندنت عربية) أظهرت أن تهريب الدواء يُعدُ ملاذًا آمنًا للسودانيين لتوفير جرعات حيوية بسعر محسن. وفي أكتوبر 2024 اتضح أن الكثير من الأدوية المستخدمة كمساعدات إنسانية (أنسولين، محاليل، مواد تطهير)، تمت سرقتها من مخازن ووزارات وبيعها في الأسواق، ما يكدس هذه الأدوية في ولايات لا تعاني نقصًا بينما تفقد ولايات هي بحاجة حقيقية لهذه الأدوية. 

في يونيو من هذا العام، نُشِر تقرير أشار إلى أن 360 مليون دولار كانت قيمة واردات الأدوية قبل الحرب، أما اليوم فهي لم تتعدّ 50 مليونًا، ما يُعدُّ تراجعًا مخيفًا يُنذر بكارثة يتحملها فقط المواطن كمتضرر مباشر، ومجال توريد وتصنيع الدواء بشكل غير مباشر، حيث إن الخسائر المجتمعية تصل لمستوى فقد الأرواح، وخسائر الشركات الربحية تصل لمستوى تدهور اقتصاديات هذه الشركات الفاعلة والملتزمة.  

الأدوية المهرَّبة وجدت سوقًا آمنًا في ظل (اللا حكومة) التي يعيشها السودان، لكنها تظل هي المهدد لاقتصاد البلاد وصحة المواطنين، فهي أدوية من دون شهادات منشأ أو رقابة مخبرية.

لقد أدى تدمير المستشفيات، وخروج آلاف الصيدليات عن الخدمة، وتأثر سلاسل الإمداد الدوائي الرسمية، إلى خلق فراغ كبير في سوق الدواء، استغلته شبكات تهريب عابرة للحدود، لإغراق البلاد بكميات ضخمة من الأدوية المجهولة المصدر، بعضها مغشوش أو متدني الجودة، وبعضها الآخر يدخل دون أي رقابة من المجلس القومي للأدوية والسموم، الجهة الرسمية المسؤولة عن سلامة وأمن الدواء في السودان.

بالرغم من المجهود الذي بذلته أمانة المجلس القومي للأدوية والسموم في ظروف الحرب، وتسهيل إجراءات دخول الأدوية، إلا أن دوره في رقابة الأدوية المهربة يجب أن يجد الدعم من السلطات العليا، بتوفير المعينات التي تمكنه من القيام بدوره.

فالأدوية المهربة خطر صحي، يتسلل بصمت بعيدًا عن أعين السلطات الرقابية، فهي لا تخضع لأي فحص علمي يضمن فعاليتها أو سلامتها، وهو ما يجعلها أشبه بـ(سموم معبأة في شكل دواء)، والأخطر أن السودان يجاور عددًا من الدول التي تُعرف بنشاطاتها المشبوهة في تجارة الأدوية، بينما تفتقر معظم هذه الدول نفسها إلى أنظمة رقابية قوية، ما يجعل الحدود السودانية بوابة مفتوحة أمام منتجات دوائية مقلدة أو غير مطابقة للمواصفات.

ويزيد الطين بلة، وجود جهات رسمية تستغل سلطاتها لتسهيل دخول شحنات دوائية حتى وإن لم تكن مغشوشة، لكنها تمر خارج القنوات الرقابية، مما يعرّض حياة المواطنين للخطر، ويفتح الباب أمام الفوضى الدوائية، وهذا بلا شك ضربة موجعة للاقتصاد والشركات المرخصة، الخاضعة لرقابة المجلس القومي للأدوية والسموم، فدخول الأدوية المهرَّبة لا يقتصر أثره على صحة المواطن فحسب، بل يوجّه ضربة قاسية للاقتصاد السوداني، فشركات الأدوية المرخصة والمصانع المحلية، التي تعمل بتصاريح رسمية، وتلتزم بالمعايير المطلوبة، وتدفع الضرائب، أصبحت عاجزة عن المنافسة أمام الأدوية المهرَّبة منخفضة السعر والفائدة، فهذه الشركات تتحمل تكاليف استيراد عالية بالعملة الأجنبية، عبر اعتمادات مصرفية رسمية، بينما الأدوية المهرَّبة تدخل بلا رسوم ولا ضرائب، ما يجعل أسعارها أقل بكثير، والمؤسف قلة جودتها، وربما خطورتها على صحة الإنسان.

تكون النتيجة موت الإنسان، وتراجع قدرة المصانع المحلية التي تستورد تعاقديًا والشركات المستوردة على الاستمرار، وهو ما يهدد بتأثر أو انهيار قطاع الدواء المنظم في السودان.

السودان اليوم بحاجة إلى حرب ثانية، لا تقل أهمية عن الحرب التي يخوضها الجيش في الميدان، حرب ضد مافيا الدواء التي تعمل في الخفاء وأحيانًا في العلن، مستغلة الفوضى الأمنية لتكديس الأرباح على حساب أرواح المرضى واقتصاد البلاد، ويتم ذلك عبر عدة إجراءات تنفذها الدولة.

في غياب هذه الإجراءات، ستبقى صحة السودانيين واقتصادهم تحت رحمة سوق فاسدة لا ترحم، وسيتحول الدواء من وسيلة للعلاج إلى مصدر خطر يهدد البلاد صحيًا واقتصاديًا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *