التضخم وأزمة سعر الصرف في السودان: قراءة تحليلية في ضوء التجارب العالمية

45
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، دخل الاقتصاد السوداني في واحدة من أعنف دوامات التضخم وارتفاع أسعار الصرف التي شهدها تاريخه الحديث. تدهور الجنيه أمام الدولار لم يكن مجرد انعكاس لتغيرات سوقية طبيعية، بل جاء نتيجة تفاعل معقد بين انهيار المؤسسات، وتعطل سلاسل الإمداد، وتفشي الاقتصاد الموازي، وفقدان الثقة في السياسات النقدية. هذه الظاهرة يمكن فهمها بعمق من خلال ربطها بما جاء في الدراسات العالمية التي تناولت تجارب مشابهة في دول نامية.

كتاب Inflation in Emerging and Developing Economies الصادر عن البنك الدولي يشرح بوضوح كيف يؤدي تدهور سعر الصرف في الدول النامية إلى تضخم سريع عبر آلية «تمرير سعر الصرف» للأسعار المحلية، خاصة في الاقتصادات التي تعتمد على الواردات لتلبية احتياجاتها الأساسية. السودان مثال صارخ على ذلك، إذ انعكس ضعف الجنيه فورًا على أسعار الغذاء، الوقود، والسلع الضرورية، ليدخل الاقتصاد في حلقة تضخمية مفرغة تضعف القدرة الشرائية وتدفع مزيدًا من الأسر نحو خط الفقر.

أما كتاب Exchange Rate Crises in Developing Countries لمايكل هول فيقدم إطارًا تحليليًا يفسر كيف تتحول الصدمات السياسية والاقتصادية إلى أزمات سعر صرف خانقة. في السودان، أدت الحرب إلى تعطيل دور البنك المركزي وتآكل قدرته على إدارة السوق، بينما سيطرت السوق الموازية على حركة العملات الأجنبية. ومع غياب أدوات تدخل فعالة، فقد المواطنون والمستثمرون الثقة في العملة الوطنية، فلجأوا إلى الدولار والذهب كملاذات آمنة، وهو ما غذّى الطلب على العملات الأجنبية وفاقم أزمة الصرف.

كتاب Changes in Exchange Rates in Rapidly Developing Countries لتيكوتشي إيتو وآن كروجر يوضح أن إدارة سعر الصرف بنجاح تتطلب ربط السياسة النقدية بأهداف الإنتاج والتصدير. غير أن السودان واجه مسارًا معاكسًا؛ إذ لم يكن تدهور العملة نتيجة استراتيجية موجهة لدعم الصادرات، بل نتيجة مباشرة لانهيار القطاعات الإنتاجية، ما حرم البلاد من موارد العملات الصعبة الضرورية لاستقرار السوق.

تحليل الظاهرة في السياق السوداني يكشف عن اقتصاد موازٍ ضخم يقوم على المضاربات وتحويلات غير رسمية، ما قلّص من سيطرة الدولة على موارد النقد الأجنبي. أضف إلى ذلك أن انقطاع الطرق وتراجع الأمن التجاري رفع تكاليف النقل وأضعف المنافسة، لتصبح الأسعار المحلية حساسة ليس فقط لتغيرات سعر الصرف، بل أيضًا لاختناقات العرض وغياب السلع. النتيجة كانت تضخمًا جامحًا يهدد الاستقرار الاجتماعي ويحد من أي فرص لتعافٍ سريع.

التجارب الدولية تقدم دروسًا بالغة الأهمية. زيمبابوي، بعد أن واجهت تضخمًا مفرطًا وانهيارًا كاملًا للعملة، لجأت إلى «الدولرة» الجزئية في 2009 باستخدام الدولار والراند الجنوب أفريقي، ما أوقف التضخم مؤقتًا وأعاد بعض الثقة للأسواق. الأرجنتين، في إحدى مراحلها، ربطت البيزو بالدولار بنسبة ثابتة 1:1، وهو ما نجح في كبح التضخم لسنوات قبل أن ينهار النظام بسبب ضعف الصادرات وارتفاع الدين. إثيوبيا، من جانب آخر، اعتمدت نظام مقايضة السلع مع شركاء تجاريين كبار، فبادلت البن بالمعدات الصناعية، مما خفف الضغط على عملتها الصعبة.

في الحالة السودانية، المعالجات التقليدية وحدها لن تكفي. هناك حاجة إلى حلول خارج الصندوق تبدأ بإنشاء أنظمة دفع إقليمية مع دول الجوار لتقليل الاعتماد على الدولار في التجارة البينية، وتفعيل اتفاقيات مقايضة السلع بحيث يتم استبدال الذهب أو النفط بالحبوب والمواد الأساسية، ما يقلل الحاجة المباشرة للعملات الأجنبية. كما أن إطلاق أدوات مالية رقمية محلية بإشراف البنك المركزي قد يحد من هيمنة السوق الموازي على المعاملات. وأخيرًا، يمكن إنشاء صندوق استقرار للعملة مدعومًا باحتياطيات من الذهب وعقود تصدير مستقبلية، بمشاركة شركاء إقليميين ودوليين لضمان المصداقية والشفافية.

تطبيق هذه السياسات يتطلب إرادة سياسية قوية، وإعادة بناء الثقة في المؤسسات، وربط السياسة النقدية بالإنتاج الفعلي لا بالمسكنات المالية قصيرة الأجل. عندها فقط يمكن للسودان أن يكسر حلقة التضخم الجامح وانهيار العملة، ويتجه نحو استقرار نقدي يفتح الباب أمام التعافي الاقتصادي المستدام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *