
محمد عبدالله الشيخ النور
مستشار قانوني
• يُعد التحكيم إحدى الوسائل البديلة الحديثة والفعالة لفض المنازعات التجارية، حيث اكتسب أهمية متزايدة في ظل التطورات المتسارعة في مجالات التجارة والاستثمار والأعمال، نظراً لما يوفره من مزايا تتناسب مع طبيعة العلاقات التجارية القائمة على السرعة والمرونة والسرية. وتنبع أهمية التحكيم من كونه أداة قانونية تتيح للأطراف تسوية خلافاتهم خارج أروقة المحاكم، مما يسهم في تخفيف العبء على القضاء، ويعزز من كفاءة النظام العدلي، ويخدم بيئة الأعمال بشكل مباشر، لا سيما أن الاقتصاد يمثل العمود الفقري لنمو الدول واستقرارها وتقدمها، إذ تنعكس نتائج الأداء الاقتصادي على مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية في الدولة، الأمر الذي يجعل من الضروري وجود نظام متكامل يحفظ الحقوق، وينظم العلاقات، ويكفل سرعة الفصل في المنازعات التجارية.
لقد عُرف التحكيم منذ القدم كوسيلة بديلة لحل النزاعات بين الأفراد قبل نشوء القضاء الرسمي، واستمر وجوده إلى جانب الأنظمة القضائية حتى بعد قيام الدولة الحديثة، غير أن التحول النوعي في الاعتماد عليه بدأ بالظهور بشكل واضح مع بداية الثورة الصناعية، حيث اتجه المستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال إلى تبني التحكيم كوسيلة مثلى لحل النزاعات التجارية والمدنية، وذلك بالنظر لما يتمتع به من خصائص تميّزه عن القضاء، فهو يمنح الأطراف حرية اختيار المحكّمين، وتحديد القانون الواجب التطبيق، وكذلك الاتفاق على الإجراءات والمكان واللغة، مما يوفّر مرونة كبيرة تتناسب مع طبيعة النزاعات التجارية. كما يضمن التحكيم السرية التامة في الجلسات والمداولات، وهو أمر على درجة كبيرة من الأهمية، خاصة في القضايا التي تتعلق بأسرار تجارية أو مصالح استراتيجية.
ومن أبرز ما يميز التحكيم أيضاً، السرعة النسبية في حسم النزاع مقارنة بالتقاضي التقليدي، مما يُمكّن الأطراف من العودة إلى أعمالهم دون تعطيل، ويقلّل من الأثر المالي والزمني للنزاع. ورغم أن بعض أنواع التحكيم قد تكون ذات تكلفة عالية، فإن العائد الزمني وسرعة التنفيذ والمرونة في الإجراءات تجعل منه خياراً أكثر جدوى من الناحية العملية. ولا شك في أن هذه الأسباب مجتمعة هي التي دفعت العديد من الدول إلى اعتماد التحكيم كوسيلة قانونية معترف بها ضمن منظومة العدالة التجارية. وتوفير الأطر التشريعية والتنظيمية التي تكفل فاعليته واستقلاليته وضمان عدالته، وفي هذا السياق حرصت المملكة العربية السعودية على تنظيم التحكيم بشكل متكامل، يتوافق مع أفضل الممارسات الدولية، ويواكب التغيرات الاقتصادية التي تشهدها المملكة، حيث جاء نظام التحكيم السعودي ولائحته التنفيذية ليكرّس مبادئ العدالة الإجرائية والموضوعية، ويمنح الأطراف الحرية اللازمة لضمان نزاهة العملية التحكيمية، ويُعزز من ثقة المستثمرين المحليين والدوليين في البيئة الاستثمارية السعودية، لا سيما في ظل رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تطوير بنية الاقتصاد الوطني، وتنويع مصادر الدخل، وتحسين البيئة التنظيمية لجذب الاستثمارات.
وقد شكّل التحكيم بذلك أحد أهم أدوات التمكين القانوني للقطاع الخاص، ومكوّناً رئيسياً من مكونات العدالة التجارية الحديثة، كما أسهم في تخفيف الضغط على المحاكم العامة، ووفّر خياراً عملياً وسريعاً وفعالاً لتسوية النزاعات.
إن تعزيز التحكيم وتفعيله بشكل مؤسسي لا يخدم فقط مجتمع الأعمال، بل يرسّخ مفهوم العدالة الناجزة، ويُظهر التزام الدولة بحماية الحقوق، وتمكين القطاع الخاص من أداء دوره في التنمية من خلال وسائل قانونية ونظامية مرنة وفعالة، وهو ما يُحتّم استمرار تطوير البيئة التحكيمية في المملكة من حيث التشريعات والمؤسسات والكوادر المؤهلة، بما يواكب التحديات، ويستجيب لاحتياجات المستقبل.
شارك المقال