التجار الجلابة في تقلي.. إسهام التنوع الإثني والتبادل التجاري (2)

52
د. خالد مصطفى

د. خالد مصطفى إسماعيل

كاتب صحفي

• نستطيع القول إنَّ التبادل التجاري بين تقلي وشمال السودان ووسطه لم ينقطع منذ مملكة الفونج، فكان التجار يحملون من تقلي منتجاتها، ويحملون إليها البضائع، كما أن اشتهار مملكة تقلي بالذهب ساق إليها صائغي الذهب مبكراً.

 ويذكر أنَّ المك جيلي أبوقرون (1640/ 1668م) جاء بالصناعية من سنار، وأسكنهم في جبل (شيبون)؛ حيث يستخلصون الذهب الخام، ثمَّ يرسلونه إلى رئاسة المملكة، ويقوم الصناعي (تبيدي) جد (التبيداب) بتصنيعه وصبِّه في قوالب، ثمَّ يصدّر إلى الخارج، هذا على سبيل المثال.

كما أنَّ اعتناق أهل تقلي الإسلام مبكراً، ووصف مملكتهم بأنَّها مملكة إسلامية، سهّل التعامل بينهم والتجار المسلمين الوافدين، فأفادوا واستفادوا.

وبعد سقوط مملكة الفونج على يد الأتراك، وفرض الأتراك الضرائب الباهظة على التجار والمواطنين السودانيين، فرَّ عدد من التجار إلى تقلي هرباً من الضرائب الباهظة وقساوة الأتراك، نسبة إلى استقلال تقلي عن سلطة الأتراك.

 وعندما شجَّع الأتراك تجارة الرقيق – نسبة إلى حوجتهم الماسة له، ومع نشوء مدينة الأبيض في كردفان كمدينة لتجارة الرقيق، مارس كثير من التجار ورجال الدين أيضاً هذه التجارة الدنيئة، وتعاونوا مع الأتراك.

وتوطدت علاقة مكوك تقلي بالتجار بصورة كبيرة جداً، وتحالفوا معهم. ونذكر في عهد المك ناصر (١٨٤٤ – ١٨٥٩م) تحالف المك ناصر والتاجر محمد ود عبد التالي (الذي وفد والده أحمد ود حمد (الملقب بعبده التالي القرآن) من سيّال النفيعاب بمنطقة غرب شندي، بطلب من مك تقلي ليكون معلماً للقرآن، فاستوطن بادئ الأمر بمنطقة السهل وسط بادية كنانة، ثمَّ انتقل ولداه محمد وموسى إلى أم طلحة؛ حيث أسَّس فيها مك تقلي سوق الدبة، ومنحه جاهاً مكتوباً له ولعقبه، وجعل على السوق محمد ود عبدالتالي شيخاً. 

وتوارث هذه المشيخة بعد مقتل محمد ودعبد التالي سبعة من ذرية عبد التالي، إلى أن انتقل بعد أكثر من مئة عام ونيف إلى سوق الترتر الحالي في بدايات العهد الاستعماري الإنجليزي. ولا تزال أسرة أحمد عبد التالي موجودة بسوق مدينة الترتر). وقد تحالف ود عبد التالي مع المك ناصر، وأقسما على المصحف، وقال كلّ واحد منهما: (أولادي هم أولادك، وأموالي هي أموالك). وقدَّم المك ناصر الحماية للتاجر محمد ود عبد التالي، وفي المقابل وفَّر محمد ود عبد التالي السلع والبضائع للمملكة، التي كان يستوردها من الخارج من مصر وغيرها، هذا على سبيل المثال أيضاً.

فترة الثورة المهدية والدولة المهدية

 بعد سقوط الحكم التركي، كلّها كانت فترة اضطرابات في تقلي، فهربت رؤوس الأموال، وضاعت فرص التجارة، واضطربت الحياة.

أمَّا الفترة الأكثر تماسكاً، وأكثر هجرة للتجار من شمال السودان ووسطه إلى تقلي، فهي الفترة التي تلت سقوط الدولة المهدية، وبداية الحكم الإنجليزي المصري، وتوافق هذه الفترة بداية حكم المك جيلي مصطفى في تقلي، وبداية إنشاء الحكم الإنجليزي المصري أول مركز حكومي في الجبال في منطقة تقلي في (كرايا) عاصمة تقلي آنذاك عام ١٨٩٩م، ثمَّ انتقل المركز إلى (تاندك) عام ١٩١٠م، ومن ثمَّ انتقل ليستقر أخيراً في (رشاد) عام ١٩١٧م؛ التي أصبحت رئاسة المركز والمجلس فيما بعد، وأصبحت رئاسة المؤسسات الحكومية فيها. 

ومن حينها تقاسمت مدينة رشاد مع مدينة العباسية تقلي (بعد نزول الناس من كرايا وتكوين عاصمة جديدة في العباسية تقلي)، تقاسمت المدينتان حواضر تقلي.. فأصبحت رشاد العاصمة (الحكومية) لتقلي، وفيها مباني الإدارات الحكومية، والعباسية تقلي العاصمة (الأهلية) لتقلي؛ نسبة لوجود المك الكبير فيها، وسرايا المك، ونخب المملكة. 

ويمكن تشبيه مدينتي العباسية تقلي ورشاد بمدينتي الخرطوم وأم درمان، فبعد دخول المستعمر الإنجليزي، أصبحت أم درمان هي العاصمة الأهلية والتاريخية، والخرطوم هي العاصمة الحكومية؛ حيث مباني الحكومة، والقصر الجمهوري، والوزارات، وجامعة الخرطوم، والسوق الأفرنجي والعربي وغيرها.

بعض التجار كانوا موجودين أصلاً في المملكة، وتحديداً في رئاسة المملكة في كرايا والهوي مع المك جيلي، فكانت كرايا عاصمة، وبها سوق كبير وعدد من التجار.

وبعد استتباب الأحوال في تقلي، وتوطيد الإنجليز حكمهم، لحق بهم ذووهم، ومن ثم ازدادت هجرة التجار إلى تقلي بصورة مكثفة، وبالأخص من شمال السودان ووسطه، وصعيد مصر، فتوزعوا في أنحاء المملكة، وأصبحوا يعرفون بـ(التجار الجلابة) – ولا نعرف مصدر الاسم أو تاريخه بالضبط، ولكن ربما جاء الاسم لأنَّهم كانوا (يجلبون البضائع)، أو لأسباب أخرى – ولكن حينها لم تكن للاسم أي دلالات سلبية كما ظهر مؤخراً.

ومن حينها وأصبح تأثير التجار واضحاً وكبيراً، اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، ودينياً (تأثير الطائفية) في تقلي. 

فجلبوا البضائع، وساهموا في إنشاء المدن، وفتح الطرق، وجلبوا الآلات الحديثة مثل طواحين الغلال، والعربات، والعجلات وغيرها، وساهموا مع الحكومة في جلب الفنيين (بنائين، نجارين، حدادين، سبّاكين سواقين… إلخ).

فمثلما بنت الحكومة أحياء الموظفين ومكاتب الحكومة، بنى التجار أحياء السوق، ودكاكين ومخازن الأسواق، وساهموا في الحياة الاجتماعية بقوة، فبنوا الأندية الرياضة والاجتماعية والثقافية، واحتفلوا بالمهرجانات الدينية، فكما استورد التجار البضائع، كذلك استوردوا الأفكار الجديدة، التي كانت تدخل مدن السودان نتيجة لانفتاح السودان على العالم آنذاك، فعلَّموا الناس مهناً جديدة كالتصميم، والبناء الحديث، والأزياء والملابس الأفرنجية الحديثة، والأكلات الحديثة، ودخلت الجرائد السودانية، والصحف والمجلات المصرية والأجنبية والكتب، وغيرها من مظاهر المدينة وجواهرها.

نواصل في الحلقة القادمة،، والسلام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *