التجار الجلابة في تقلي: إسهام التنوع الإثني والتبادل التجاري (١)

287
د. خالد مصطفى

د. خالد مصطفى إسماعيل

كاتب صحفي

• في هذا المقال نقتبس من مقدمة الأستاذ يوسف محمد القديل في كتاب (رشاد جنة الأرض وعروس الجبال) للأستاذ الشفيع سر الختم، التي جاءت تحت عنوان (نقوش على صخور رشاد). 

والمقدمة بحق لوحة أدبية فنية مطرزة بجمال التنوع والوطنية.

يبدأ الأستاذ الأديب الأريب والملحن  يوسف محمد القديل الجبوري، ابن تقلي البار، وحفيد المك القديل مقدمته الرائعة فيقول: (سعدت كثيراً حين هاتفني الأخ والأديب الأستاذ الباحث والمؤرخ: الشفيع سر الختم عبد القادر، موضحاً لي خطوطه العريضة حول سِفْرِه الفخيم عن بقعة حبيبة إلينا جمعتنا نحن في فجر الصبا… رشاد البلدة الساحرة بطبيعتها والكريمة بأهلها.. لِمَ لَمْ أسعد وقد نهلنا من ينابيعها العذبة رحيقاً أنعش دواخلنا، فحلَّقنا فراشات تملأ الكون جمالاً، وطيوراً غردت فأشجى غناؤها.. هنأته على فكرته ووفائه العظيم، وذلك طبع الكريم ابن الكرام أهل الذكر والاحترام كما عهدناهم وتعلمنا منهم معنى المودة والمحبة والتراحم والتواصل الممتد منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.. كانوا أسراً وأفراداً تفتحت عيوننا على لوحة المودة التي رسموها، فكانوا بيننا شامة على خد رشاد الأسيل، كنَّا نتلاقى في صحن السوق كباراً وصغاراً، فما شعرنا يوماً بأنَّهم جسم غريب على ذلك الجمال، وشعرنا بالوحشة حين غادروا لأم درمان والدويم والأبيض وبارا.. أسرة سر الختم عبد القادر، وسر الختم عثمان، وصالح عبد القادر، وحسن أبوزلازل، وود البحر، والغبشاوي، والحاج أبونخيلة، وود النور، والسيد النور، وحسن سليمان، ومحمد عثمان الناطق، وسيد مصطفى غيث، وعبد العظيم وعبد المجيد حتيلة، وعبد الستار عبد الحليم، وحاج حسن الحلاق، وآدم محمد شرفة، ومحمد عوض الجيد، ومحمد حامد الضو، ويعقوب إدريس، نزورهم ونلاقيهم في السوق ويزورهم أهلنا، ونلتقي مع أولادهم في الملاعب وتسلّق الجبال وشلالات الماء وخزاناته، وجبنا الأحياء سوياً في الأعياد والأفراح والأحزان، والنفاير في توكرنا وطازبا والورشة والملكية وحلة فلاتة وتمولقن وجبل فلاتة وتروبة وكلورو ودبيكر وتومي والفيض أم عبد الله وتجملا وترجك وتاجلبو وامبير وأبو الحسن… 

وأنا أستعرض تلك الحقبة من ذلك الزمان الذي ترك نقوشاً في دواخلنا حفرها الآباء والأعمام والإخوان والأصدقاء.. كانوا جميعاً بعضاً من تكويننا الاجتماعي ونموِّنا في الطفولة حتى الشيخوخة. أسأل الله طول العمر والسعادة لمن هو على قيد الحياة، وأسأله الرحمة والمغفرة لمن رحلوا عن هذه الفانية). 

 ويواصل في فقرة أخرى: (كانت رشاد تجارياً كما ذكرت من أرقى مدن المنطقة.. التجارة والبضائع المعروضة في متاجرها- ورغم وعورة الطرق- كانت بين الأصناف الراقية التي كنا لا نراها إلا في السوق الأفرنجي في الخرطوم أو الأبيض، من حيث الملبوسات والثياب الستاتية والتوتل السويسري والإنجليزي، والأحذية الإيطالية، والعطور الباريسية والألمانية، وأقمشة البناطلين الراقية، وأربطة العنق والمعلّبات والمجلات الدورية اليومية.. الشيخ عبد الستار عبد الحليم «بازار رشاد»، كان يجلب لمكتبته الصحف السودانية والمجلات المصرية (المصور – الأهرام – الشرق الأوسط)، والإصدارات المترجمة (ريدر دايجست)، كتاب الهلال – طبيبك… هذا مع نقل أخبار رشاد في جريدة كردفان الغراء من مراسلها «عبد الستار عبد الحليم»، يربطنا بالبلدة الراقية حين نبتعد من أجل لقمة العيش، في أفراحها وأتراحها ونموها، كان عبد الستار بالنسبة لنا مثل «دميتري» البازار في الخرطوم.

كنَّا نلتقي بشغف المحب يوم قدوم عربة البوستة المنتظمة في الأسبوع مرتين، ولانضباطها كنَّا نحجز فيها للسفر المريح لأم روابة.. وأذكر من سائقيها الحاج معروف وكشيب اللذين كانا مثالاً للدقة في المواعيد والقيادة الواعية الرائعة رغم وعورة الطرق والمقارح المخيفة، (الأحد والأربعاء) أيام عربة البوستة في تبادل من أم روابة لهيبان، ومن هيبان لأم روابة… ولا يفوتنا أن ننصت لشيخنا الختمي (صالح عبد القادر) في أحاديث في ذكرى ميلاد النبي- صلى الله عليه وسلم- فنهرع عند المساء للخيمة أيام الاحتفال بمولده- صلى الله عليه وسلم- لنسمع السيرة تُقرأ بتلك الطريقة المنغمة، والتي يرددها المريدون في جماعية حبيبة للنفس، ثم عودة لشيخنا آدم شرفة، وسيد مصطفى وطاحونة ود البحر، وقهوة عمر آدم وقهوة جبارة.. ولا يفوتني أن أقف لحظة عند المقص الذهبي عند السوق من الجهة الشمالية الغربية، وقد شمخ العم «أحمد التجاني» على طاولته بمقصه وهو بالمتر يقيس البدل والبناطلين والقمصان الأفرنجية، لينفّذها الأسطوات إسماعيل تيرة – حسن أبوحبيل – طه موسى – سليمان طراوة- عبد الله العوض- الراوي وعبد الله كاوا- جيل من الأسطوات عزفوا سيمفونية الحضارة في ذلك الزمان، فأبدعوا في زمن كان ينظر فيه لمن يشتري ملابس جاهزة من السوق بأنَّه «موغل في الأهلية».

يؤدي الناس صلاة العصر، ينطلقون في ميادين الرياضة.. تجد أنَّ الرياضة لها جذور في تكوينهم، فطبيعة المنطقة تفرض رياضة المشي وتسلّق الجبال والمصارعة وركوب الدواب بما فيها الخيل، وقد أهدت السودان عدداً من الأبطال في الجري والوثب العالي والضاحية، وفي كرة القدم أهدت أندية العاصمة الكبرى الكثير من الأفذاذ…

ففي نادي الهلال العاصمي مثلاً لعب إدريس آدم نور الدين، وأحمد محمود باشا، ويوسف محمد القديل. في نادي الموردة وفي الأبيض حسن محمود باشا (فورتين)، والتاج علي وآدم جمعة عثمان، وقد جمع فريق رشاد مجموعة حينها كان يمكن أن تتحدى فرق العاصمة القومية بجدارة، حيث يتكون الفريق من نخبة أولاد إبراهيم مختار وعلى رأسهم كندرة ومنصور وأحمد، وأولاد الباشا أحمد، وأولاد القديل، وسيف الدين النجار، والأساتذة جمعة كونا وصلاح محجوب الخليفة ومحمد حسين الفكي علي وأولاد آدم نور الدين وإبراهيم التجاني وحسن بشير الحسن وغيرهم، يلعبون بمهارة فذة ولياقة عالية وقوة تحمّل ولياقة ذهنية تدعو للعجب!

وكان للطلاب في إجازاتهم دور في تفعيل النشاط الرياضي والثقافي والفكري اللا محدود بما فيه من معارض، ومناقشة الأفكار التي تطرح من وقت لآخر روحياً واجتماعياً..

 لقد أنجبت الكثيرين ممن برعوا في الرسم والتشكيل والخط والنجارة وكتابة الشعر والقصة، ولا يزال النهر يتدفق إسماعيل محمد أحمد- بدر الدين جبريل- الخير عثمان– عبد الله عبد الرحمن الزيبق- رجب القديل- سليمان آدم سليمان- طه مريود.. وما زالت النقوش على الصخر قائمة)… انتهى الاقتباس. 

الكلمات أعلاه جزء ممَّا جادت به قريحة الأستاذ والشاعر الملحن يوسف محمد  القديل، يصوِّر فيها شكل الحياة الاجتماعية، والثقافية، والرياضة، والدينية،  والاقتصادية وتفاعلاتها في مدينة رشاد (رئاسة مجلس ريفي تقلي)، في حقبة الحكم الإنجليزي المصري منذ مطلع القرن العشرين وحتى الاستقلال وما بعده. 

لكم التعليق. والسلام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *