«البياض بيجيبوا» .. أما آن لهذه الأعذار أن تترجل؟

26
د. حاتم محمود عبدالرازق

د. حاتم محمود عبدالرازق

لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني

• في الثقافة السودانية، شاعت عبارات يرددها بعض أصحاب المهن غير المهرة لتبرير الإخلال بجودة العمل والتقصير في إتقانه، حتى تحولت إلى أمثال يتداولها الناس وكأنها حقائق لا تقبل النقاش. من ذلك مثلًا ما يقوله بعض البنّائين عندما يواجهون بملاحظة أن الجدار غير مستقيم أو أن به اعوجاج، فيردّون ببرود: «مافي مشكلة.. البياض بيجيبوا»، أي إن العيب سيختفي بعد التبييض. والمفارقة أن مبيض الجدران نفسه قد يكرر النغمة ذاتها إذا وُجه له النقد، فيقول: «النقاشة بتجيبوا»، وهكذا تتوالى حلقات التبرير حتى يضيع حق صاحب العمل، ويتوارى الإتقان خلف ستار من الأعذار الواهية.

أما صاحب المنزل فيجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر: إما إعادة العمل على نفقته الخاصة، مع عدم ضمان ألا يتكرر السيناريو ذاته، أو قبول النتيجة كما هي، مائلة ومعوجة، شأن كثير من واقعنا الذي ألفنا أن نراه مائلًا.

هذه الظاهرة ليست معزولة عن السياق الاجتماعي والثقافي في السودان، فهي نتاج مزيج من عوامل متشابكة منها طبيعة الشخصية السودانية المتسامحة، التي تتقبل الأخطاء كأنها قضاء وقدر، ويُضاف إلى ذلك الفهم القاصر لمفهوم التعويض، حيث يرى بعض الناس أن قبول مال العوض لا يتسق مع الرضا بالقضاء والقدر، فيرفضونه ويميلون إلى العفو، حتى لو كان الضرر جسيمًا، وهو ما يعزز ثقافة التنازل عن الحقوق بدلاً من ترسيخ قيمة المساءلة. كما يسهم عزوف البعض عن المطالبة بحقوقهم خشية الحرج أو بدافع الشهامة، مع افتقار فئة أخرى إلى الوازع الأخلاقي في ممارسة المهنة، فيدّعون الإتقان ويقبلون العمل دون إنجازه كما يجب، مستفيدين من غياب الرقابة الصارمة وضعف المساءلة.

ولأن الدولة لا تفرض ضوابط مهنية أو متطلبات مهارية قبل مزاولة الحرف، بات من السهل أن يمارس أي شخص حرفة بأسلوبه الخاص، بما قد يضر أكثر مما يصلح. هذه العشوائية لا تقتصر على الحرف التقليدية، بل تمتد إلى أنشطة هامشية مثل السمسرة، التي باتت تمارس بلا رخص ولا تنظيم، حتى وصلت إلى التحكم في قوت المواطن عبر المزايدات والمضاربات.

النتيجة المباشرة لهذا الخلل كانت فقدان الثقة في العمالة المحلية، وتوجّه كثير من أصحاب الأعمال والمواطنين إلى استقدام العمالة الأجنبية بحثًا عن الجودة والانضباط. فأنت تجد من يبحث عن عمّال من دولة بعينها لتركيب السيراميك، وآخر يلجأ إلى جنسية محددة لبناء الجدران أو صب الخرسانة، وهو مؤشر مؤسف على ضعف تأهيل عمالتنا الوطنية.

إن معالجة هذه الظاهرة تبدأ من الجذور بوضع معايير مهنية دقيقة، وإخضاع الممارسين للاختبارات والشهادات الحرفية، وتفعيل الرقابة والمساءلة، ونشر ثقافة الإتقان باعتبارها قيمة دينية قبل أن تكون مطلبًا اقتصاديًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه». كما يجب على الدولة أن تعيد النظر في رؤيتها للتعليم بحيث يكون رفد سوق العمل بالعمالة الماهرة هدفًا استراتيجيًا، مع الاستفادة من تجارب بعض الدول الغربية حيث يتجه معظم التلاميذ إلى التعليم الحرفي والمهني، بينما يختار القليل فقط إكمال التعليم الجامعي، مستفيدين من الحوافز المادية والمعنوية. ورغم اختلاف واقعنا عنهم، لكن يمكن دراسة هذه التجارب من جميع جوانبها، وتطبيق ما يلائم بيئتنا واحتياجاتنا بصورة عملية.

كما أن من البديهي أن تلتزم الدولة في مشاريعها بالتعاقد مع بيوت خبرة استشارية تتولى الإشراف والمتابعة منذ وضع أول لبنة، للتأكد من أن كل خطوة تنفذ وفق المعايير والضوابط الموضوعة على أسس ودراسات علمية دقيقة. فقد شهدنا فشل مشروعات حيوية، إما لم ترَ النور أصلًا أو انهارت بعد وقت قصير من إنجازها، وكان السبب غياب هذا النوع من الرقابة المهنية المتخصصة بسبب الفساد أو التراخي.

نحن على أعتاب مرحلة إعادة الإعمار بعد حرب أحرقت الأخضر واليابس، وشردت الملايين، ودمرت البنية التحتية، ولا مجال الآن لأن نكرر البناء المائل أو الإصلاح الترقيعي. البناء على أسس علمية متينة وجميلة ليس ترفًا، بل شرط أساسي للنهوض.

لقد آن لهذه الثقافة أن تترجل، فالأوطان لا تُبنى بهذه الطريقة، بل بسواعد ماهرة، وعقول واعية، وضمائر حية، وأطراف تعي حقوقها وواجباتها مستعينة بالصبر والعلم، ترى في كل لبنة وقطعة حجر خطوة في طريق بناء المستقبل.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *