

أ. د. سعد يوسف
الحلقة التاسعة
• ( الهواجس) •
عند وصولي طرف الشارع إندلع فجأة إشتباك عنيف عند الخور .. وبدأت القذائف المختلفة الأشكال والألوان و الأصوات تتطاير من فوقنا .. فأسرعت إلى الاحتماء بحوائط المنازل و تحركت ملتصقاً بها محاولاً الوصول إلى البيت . كنت أتحرك خطوة أو خطوتين ثم أتوقف لفترات طويلة أتسمع فيها أصوات الأعيرة النارية حتي أتمكن من تحديد موقع وزمن الخطوة التالية و تلك ثقافة أكسبتنا إياها أيام الحصار قسراً .. وصلت رفاقي تحت الشجرة .. لم يسألني أحد عن شيء لأنني عندما غادرتهم اعتقدوا أني دخلت البيت .
تواصل الاشتباك بذات العنف في المنطقة الفاصلة بين حينا و حي الدوحة .. في ذات المكان الذي توقعت أن يكون فيه الولدان ..فطاف بي طائف ثقيل .. خليط من مشاعر الرعب و القنوط وفقدان الحيلة فقلت لجلسائي وكأنني أحادث نفسي : إذن فقد مات الولدان فمن لم يمت منهما بعيار طائش مات بقذيفة مقصودة .. سارع أحد جلسائي لنفي هذه الفكرة من أساسها بتأكيده على أنهما لا بد أن يكونا قد تجاوزا منطقة الاشتباك قبل وقوعه بزمن طويل .. نظرت إليه متشككاً فاعتصم بالصمت .. ثم فتح جليس آخر موضوعاً مغايراً فلم أشاركهم فيه بكلمة واحدة .. كنت بينهم لكنني لم أكن معهم لأنني كنت أسير هواجسي .
خيم الصمت والحزن على كل شيء تحت الشجرة .. حتى أوراقها توقفت عن الحركة وتلبدت السماء بغيوم كثيفة .. مر زمن لا أعرف مقداره فغابت الشمس وتوقف الاشتباك ولم يعد الولدان فازدادت هواجسي .. سمع كل من كان بالمنطقة بالخبر فتواصلت زياراتهم لنا محاولين مواساتي و تطميني بأن الولدين لا بد أن يكونا قد أمنا نفسيهما في البيت عند بدء الاشتباك و لا يستطيعان الخروج ليلاً خوفاً من القناصة و أنهما حتماً عائدان مع شروق الشمس ..
مع ازدياد عتمة الليل لم يبق معي سوى واحد من جلسائي .. كنا صامتين واجمين .. لم نتناول ذلك اليوم وجبة الليل المكونة من ما وفرناه من وجبة النهار من خبز وعدس .. و قبل أن يغادرني جليسي الوحيد حاول إقناعي بترك المنزل تلك الليلة والمبيت معهم في الشارع المجاور .. رفضت الفكرة .. فاستبدلها بفكرة أخرى تتلخص في أن ينتدب أحد الشباب للمبيت معي فرفضتها أيضاً .. وقف جليسي و تمهل قليلاً قبل أن يتحرك علي أوافق على إحدى فكرتيه .. ثم تحرك عني متكاسلاً حتى غاب عن بصري .
قضيت ذلك الليل وحدي في البيت و ربما في الشارع كله .. لم أنم ..بل لم يلامس جسدي السرير .. كنت في حركة دائبة بين غرفتي والشارع .. كانت تلك الليلة طويلة طولاً مملاً كأن الزمن توقف .. و كانت الطبيعة من حولي مشحونة بالكآبة .. السحاب كثيف أسود اللون .. فلا نجوم ولا قمر .. الرعد يزمجر بين الحين والآخر لكنه لا يمطر .. أصوات القذائف تسمع بين الحين والآخر .. حتى آذان الفجر سمعته أو خيل إلي أنني قد سمعته كأنه آت من قاع جب لم أتمكن من تحديد مكانه .
بعد صلاة الفجر أعددت لنفسي قهوتي المعتادة شارد الذهن فلم أنتبه إلى أني نسيت أن أضع فيها بعض السكر إلا بعد عدة رشفات .. لم أعالج الأمر و واصلت ابتلاعها في جرعات كبيرة .. ثم انتظرت حتى أشرقت الشمس بضوء باهت تسلل من بين ركام السحب و قررت أن أذهب إلى نقطة إرتكاز القوات الغازية التي تبعد عنا حوالى كيلومتر ونصف الكيلومتر لأسألهم عن مصير إبني و رفيقه لأعرف إن كانا قد لقيا حتفهما في اشتباك الأمس أم لا ..
خرجت من المنزل بذات الذهن الشارد متوجهاً نحو شارع الأسفلت.. وقبل أن أضع قدمي على الأسفلت سمعت صيحات عالية بلغة لا أعرفها
و.. نواصل
شارك المقال