البروف سعد يوسف عبيد يكتب لـ (فويس): النكبة (الحلقة الأخيرة) 

39
Madani
Picture of أ. د.  سعد يوسف عبيد

أ. د. سعد يوسف عبيد

(مدني .. أخيراً)

• نظرت في ساعتي فكانت الواحدة ظهراً أي أن رحلتنا من سوق ليبيا حتى تحركنا من منزل الأزهري استغرقت أربع ساعات.

من هناك وحتى خروجنا من كبري شمبات توقفنا عند عدد من الارتكازات كان من بينها ارتكاز غريب عجيب فقد كان ذلك الارتكاز في قلب الكبري نفسه ، في ذات المكان الذي قطع فيه الكبري فيما بعد .. فعندما شاهدت صور تفجير الكبري ذات يوم قلت في نفسي : ( لو صادفنا تلك اللحظة في ذلك المكان لكنا في ذلك اليوم طعاماً لأسماك النيل ).

أما أكبر ارتكاز فقد كان بعد الكبري مباشرة .. في محاذاة مقر سلاح المظلات .. شاهدنا عدداً من العربات القتالية ومجاميع كبيرة من العساكر الشرسين يصدرون عدداً من الأوامر لسائق الحافلة .. أوامر متناقضة تجعله لا يدري إن كانو يأمرونه بالتحرك أم الوقوف في مكانه .. وجاء الحل من المساعد صاحب المهارات الكبيرة في الحوار و التفاوض و الذي نزل من الحافلة وتوجه مباشرة نحو قائد الارتكاز .. كنا نشاهده من على البعد وهو يصافحه بيده و يتحدث معه طويلاً .. وكم كانت دهشتنا كبيرة عندما رأيناه يعيد مصافحته عدة مرات ثم يحتضنه و ينفجر الإثنان ضاحكين .. لم نكن ندري ما الذي كان يدور بينهما .. و أخيراً عاد المساعد للحافلة وقال للسائق :

يلا يا معلم اتحرك

لم يتحرك السائق و ظل يوجه بصره نحو الأسلحة الموجهة للحافلة من كل جانب .. تحرك القائد نحو الحافلة وأشار بيده للسائق آمراً بمواصلة السير .. وفي ذات اللحظة أنزلت القوات أسلحتها فتحركت الحافلة ببطء شديد مبتعدة عن الارتكاز.

واصل السائق سيره الحذر في اتجاه الشرق حتى ( صينية الملتقى ) .. عند الصينية دارت الحافلة لتتجه شمالاً .. حافظت الحافلة على سرعتها البطيئة لفترة طويلة فلم يعترضها أحد .. إطمئن السائق وزاد من السرعة ولم ينتبه لأحد الارتكازات فتجاوزه .. أطلق عساكر الارتكاز النار على الحافلة دون أن يصيبوها .. أوقف السائق الحافلة ورجع بها إلى الخلف حتى وصل إلى حيث عساكر الارتكاز الذين كانوا مسترخين تحت شجرة كبيرة كثيفة الظل ، على كراسي جلوس فاخرة ربما كانو قد نهبوها من أحد البيوت المجاورة .. نزل السائق ومساعده وقدما ما يلزم من اعتذارات أمام الغزاة الذين لم يتحركوا عن كراسيهم .. استلزم الأمر نصف ساعة من الاعتذارات والرجاءات و مضاعفة قيمة الأتاوات قبل أن يسمحوا للحافلة بالمرور. واصلت حافلتنا سيرها حتى اقتربت من كبري الحلفايا فانحرفت يميناً وسارت في طرق غالبها ترابية حتى وصلت الحاج يوسف .. 

بدخول الحافلة منطقة الحاج يوسف وجدنا أنفسنا وسط أعداد كبيرة من أسواق المنهوبات تتخللها ارتكازات كان الجديد فيها أن عساكر الارتكاز كانوا يركزون على الركاب .. يفتشونهم تفتيشاً دقيقاً بحثاً عن الأموال .. يصادرون حلي النساء و الهواتف الذكية و الأوراق المالية ذات الفئات الكبيرة ، فكان الركاب يخفون هذه الأصناف داخل الحافلة .

بعد الحاج يوسف والمناطق المجاورة لها توقف السائق ليشتري من أحد أسواق المنهوبات الوقود الكافي لباقي الرحلة و نبهنا إلى أنه سوف يتجاوز الطريق المسفلت ليتجاوز بعض العقبات التي لم يذكرها لنا .. انحرف عن الطريق ودخل بالحافلة في طرق ترابية وعرة بعضها شقت وسط المزارع .

كانت الحافلة تتقافز وتتمايل على الطريق فازدادت آلام ظهري وانكتمت أنفاسي فأحسست بألم حاد في صدري حتى أيقنت بأنه الموت لا محالة .. لم أحاول الاستنجاد بأحد رفاق السفر لأن لكل منهم شأن يغنيه .. استمرت رحلتنا على تلك الطرق الوعرة لساعة أو تزيد وسط دوامة من الغبار حجبت عنا كل ما هو خارج الحافلة .

وبعد أن بلغ مني الألم مبلغه مال السائق فجأة بالحافلة وقفز بها وسط الطريق المسفلت .. فانجلى الغبار وتوقفت الحافلة عن التمايل فهدأت أنفاسي قليلاً .. مالت الشمس نحو الغرب في اتجاهها نحو الغروب فبدت قرى شرق الجزيرة تمر أمامنا كالأشباح .

سارت حافلتنا على الطريق السريع في اتجاه مدينة رفاعة بسرعة كبيرة لأول مرة و نبهنا المساعد إلى أننا قد خرجنا من نطاق سيطرة الغزاة .. تنفسنا الصعداء وبدأت أشباح الإبتسامات تظهر على وجوه بعض الركاب و شعرنا بالجوع والعطش للمرة الأولى منذ انطلاق الرحلة .. فاوضنا السائق على الوقوف بنا عند أول كافتيريا تقابله .. ولما لاحت من على البعد إحدى القرى حاول السائق الذي كان في عجلة من أمره تجاوزها لكن أصرارنا دفعه للوقوف .

نزلنا جميعنا من الحافلة .. شربنا المياه بشراهة و صلينا ما فاتنا من فروض قصراً وجمعاً لكننا لم نتمكن من الأكل لأن السائق كان يستعجلنا الصعود إلى الحافلة .. انتظمنا داخل الحافلة فواصلت طريقها دون توقف . وبعد أن عم الظلام وجدنا أنفسنا فجأة أمام ارتكاز كبير .. فكان ذلك أول ارتكاز للجيش يقابلنا .. وكان عساكر ذلك الارتكاز هم أول عساكر للجيش أراهم بعيني منذ أن نشبت الحرب .

صعد أحد العساكر إلى الحافلة وفحص أوراقنا الثبوتية على ضوء جهاز الهاتف الخاص به .. كان يفحص الوثائق بدقة ويوجه الأسئلة للذين كان قد شك فيهم ..لقد استغرق ذلك الفحص الذي لم يعترض أحد زمناً طويلاً وزاد عليه أن العسكري بعد أن نزل وقف مع زملائه يتشاورون .. بدأنا نحس بالتوتر .. وبعد زمن حسبناه طويلاً سمح لنا بالمرور.

حاول ىالسائق تعويض ما فات من زمن بزيادة السرعة لكنه لم يلبث إلا أن وجد نفسه أمام ارتكاز آخر .

أوقفوا الحافلة خارج الطريق .. صعد العساكر وكرروا فحص الهويات السابق .. ثم جاء قائدهم ووقف عند الباب وأمرنا بالنزول من الحافلة حاملين أمتعتنا ..فنزلنا و أمروا مساعد السائق بإنزال كل الحقائب عن سقف الحافلة .. ثم أمرونا أن نصطف في صف مستقيم وأن يفتح كل منا حقيبته ويضعها أمامه .

و بدأ فحص الأمتعة .. ولما سألناهم قالوا إنهم يبحثون عن منهوبات محتملة من الخرطوم .. كانوا يسألونك عن فواتير أي أجهزة كهربائية يجدونها في حقيبتك .. إنتابني إحساس ممض بالغضب الممزوج بقلة الحيلة سببه هذا التحول في موقفي من أحد ضحايا نهب العاصمة إلى أحد المتهمين بنهبها !! .. نبشوا حقيبتي فلم يجدوا فيها سوى عدد قليل من قطع الملابس وبعض المتعلقات الشخصية ودفتر كنت أسجل فيه يوميات الحرب .

من حقائب بعض الركاب أخرجوا بعض الأجهزة الكهربائية الصغيرة كالخلاطات والمكاوي .. دافع الركاب بشدة عن أجهزتهم مبررين ذلك بأنهم في العادة لا يحتفظون بفواتير المشتريات الصغيرة . لقد استغرق ذلك الجدال زمناً طويلاً قبل أن يسمحوا للحافلة بالمرور بعد أن صادروا ما رجحوا أنها من منهوبات الخرطوم.

بوصول الحافلة إلى رفاعة غادرها لأول مرة بعض الركاب ثم عبرت الجسر إلى مدينة الحصاحيصا فكان الطريق منها إلى مدني مكتظاً بكل أشكال السيارات والحافلات والشاحنات يحفها من الجانبين أفراد القوات النظامية من جيش وشرطة وأمن يفحصونها سيارة بعد أخرى .

كان السير بطيئاً جداً إلا أننا بحمد الله وصلنا إلى ود مدني عند حوالي منتصف الليل فكانت هذه هي نهاية الرحلة إلى ود مدني لكنها كانت بداية ترحالنا من مدينة إلى أخرى .. ذلك الترحال الذي عرفنا بدايته لكننا حتى اليوم لم نعرف له نهاية ما دامت نيران الحرب مشتعلة .

وقبل أن أكتب كلمة ( النهاية ) أتقدم بوافر الشكر لكل من قرأ الحلقات و كل من تفاعل معها .. وأعتذر لكل من أصابته ببعض الحزن أو الغضب .

النهاية

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *