البروف سعد يوسف عبيد يكتب لـ (فويس): النكبة (14)

31
Izaha
Picture of أ. د.  سعد يوسف عبيد

أ. د. سعد يوسف عبيد

الخيار الوحيد

• عند الفجر عادت الكهرباء وكان تيارها أقوى من المعدل فاحترقت غالب لمبات البيت .. ومع شروق الشمس عادت المياه لكنها كانت ضعيفة فانشغلت بملء الأواني .. و الاغتسال .. ثم ارتديت ملابسي عازماً الخروج ذهاباً إلى الإذاعة .. أحسست بالإرهاق فاضجعت على السرير لآخذ قسطاً من الراحة يعينني على تحمل المشوار راجلاً من بيتي إلى الإذاعة ..المسافة بين بيتي و مباني الإذاعة لم تكن طويلة لكنها تستغرق زمناً طويلاً  لأنه في مثل هذه الظروف لا يمكن سلوك الطريق المستقيم المعتاد إذ تقتضي الحيطة والحذرالمرور عبر عدد من الأزقة في طريق متعرج . 

 لم اتمدد على السرير إلا دقائق معدودة كانت كافية لوضع خريطة لخط سيري من البيت إلى الإذاعة .

نهضت متعجلاً  ووضعت بطاقاتي وجواز سفري في جيبي وحرصت على أن لا أحمل في جيبي أي قدر من النقود تحسباً من النهب أثناء عمليات التفتيش في الارتكازات . ثم توكلت على الله عازماً  الخروج .. وقبل أن أغادر الغرفة سمعت طرقاً على الباب و محاولات لفتحه .. عندها أحسست بكم كبير من الإحباط و اليأس إذ أيقنت بأنه لابد أن يكون بالباب وفداً جديداً من الغزاة و هذا يعني حبسي عن تنفيذ خطتي في الذهاب إلى الإذاعة .

أسرعت نحو الباب و فتحته فكانت المفاجئة أن لا أحد عند الباب سوى إبني و رفيقه .. فكان لقاءاً عاطفياً مشحوناً .. أدخلتهما سريعاً و أغلقت الباب .. كانت حالتهم يرثى لها .. وآثار الجلد عليهما ظاهرة .. تركتهما يغتسلان ويغيران ملابسهما .. دخلت إلى غرفتي و غفوت لأول مرة غفوة قصيرة .. ولما صحوت وجدتهما نائمين .

عند العصر جلست اليهما وقصا علي قصة الإعتقال و تتلخص في أنهما أعتقلا في الدوحة ثم رحلا إلى المعتقل في مباني بلدية أمدرمان وليس الإذاعة كما كنا نعتقد .. كشفا عن آثار التعذيب في جسديهما .. و تحدثا عن ما شاهداه في المعتقل .. و أكدا شكوكنا في ( x )   ، بل وفي غيره ..المهم قررنا أن لا يتحدثا كثيراً في هذا الموضوع .

لقد أصبح جلياً أمام أعيننا أن وجودنا في البيت أصبح يشكل خطراً عظيماً .. و أن كل الخيارات قد سقطت و لم يبق أمامنا سوى خيار وحيد .. هو : خيار الهجرة  والنزوح .. في البداية أوعزت لرفيق إبني أن يلتحق بعائلته التي كانت قد نزحت مبكراً إلى حي آخر أكثر أماناً . أما نحن فقد كانت أمامنا عدة مسارات لخيار الهجرة و النزوح :

أولها : النزوح إلى حي بانت غرب و هو حي لم يدخله الغزاة واحتمال إجتياحهم له في المستقبل كان ضعيفاً و فيه بيت العائلة الكبير الذي لا يبعد عن بيتي أكثر من ثلاثة كيلو مترات .. 

و ثانيها : أن نغادر إلى مدينة ودمدني لنلتحق ببقية العائلة و منها أغادر أنا إلى القضارف تلبية للدعوات المتكررة من أخي وصديقي عثمان البدوي . 

أما الخيار الثالث فكان يتلخص في :  أن نسلك طريق غالب سكان الحي بالنزوح إلى الأحياء الآمنة في المنطقة الشمالية لمدينة أمدرمان .

وقبل أن نحسم خياراتنا توافد علينا أهل الحي مهنئين و مباركين .. ولاحظت على وجوههم فرحاً حقيقياً صادقاً غاب عنهم شهوراً طويلة ، لكنه كان فرحاً حذراً إذ أن الحادثة دقت ناقوس الخطر وأشارت إلى أن الحرب دخلت منحنىً جديداً .. 

 بعد ذهاب المهنئين غادرنا رفيق إبني للالتحاق بعائلته وجلست مع إبني و قررنا أن نضع ما خف من متعلقاتنا الشخصية في حقيبتين و نغادر صباحاً إلى بيت العائلة الكبير في بانت غرب وننتظر هناك ريثما تهدأ الأمور فنعود .. 

إتصلنا بسائق ركشة من سكان الحي و اتفق معنا على أن ننتظره في الصباح الباكر ليقلنا إلى بانت ..

و ..نواصل

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *