• قلة من الأسماء التي تمكنت من الجمع بين عمق الرؤية الأكاديمية وخصوبة الموهبة الفنية و يبرز علي رأس قائمة الرواد في مجال الحداثة اسم الدكتور الماحي سليمان الذي إجتهد و سعى إلى إثراء الأغنية السودانية بأبعاد جديدة، مؤمنًا بأن «عبقرية الألحان تكمن في مزج العلمية بالعملية».
بعد تلقيه التعليم الاكاديمي إتجه د. الماحي سليمان إلى دراسة الموسيقى و بدأت رحلته لخلق فكر موسيقي و لم يكتفِ بموهبته الفطرية، بل آمن بأن الفن يحتاج إلى أسس علمية متينة ليصمد ويتطور مما دفعه إلى دراسة الموسيقى الشرقية في أكاديمية الفنون بمصر ليصبح من أوائل السودانيين الذين تخصصوا أكاديميًا في هذا المجال، كانت رحلته الأكاديمية نقطة تحول في مسيرته حيث أتاحت له فهم أسرار التوزيع الموسيقي والهارموني الذي تمكن من توظيفه بذكاء في سياق الموسيقى السودانية.
محور فكر د. الماحي سليمان هو الدعوة إلى إحداث تزاوج بين الموهبة الفنية الخام (الجانب العملي) والمعرفة الموسيقية الممنهجة (الجانب العلمي) ففي رأيه أن اللحن المتقن ليس وليد الإلهام اللحظي فقط بل هو نتاج جهد تراكمي واعٍ لتنظيم الأفكار الموسيقية و يرى أن الاعتماد على الموهبة وحدها يمكن أن يؤدي إلى أعمال جميلة ولكنها قد تفتقر إلى العمق والتركيب المتكامل بينما الدراسة الأكاديمية توفر للفنان الأدوات اللازمة للتعبير عن أفكاره بشكل أكثر ثراءً.
طبق د. الماحي سليمان نظرته الفلسفية في أعماله حيث يظهر التوزيع الموسيقي الدقيق والهارموني المدروس مما يعطي ألحانه طابعًا فريدًا يمزج بين الروح السودانية الأصيلة والتقنيات الموسيقية العالمية.
تجلت هذه الفلسفة في العديد من الأعمال التي تحمل توقيعه و من أبرز إسهاماته دوره في تطوير آلة العود لتصبح جزءًا أساسيًا من التوزيعات الموسيقية السودانية الحديثة وإمكانيتها في عزف مقامات مركبة كما أنه قام بتلحين العديد من الأغنيات، منها أغنية «أنا السودان» و أغنية «قول النصيحة» و غيرها من الاغاني التي كانت مثال واضح لأبعاد قدرته على التوظيف الموسيقي الدقيق في خدمة النص الغنائي و لا يقتصر إبداعه على التأليف فهو عازف عود ماهر يمتلك تقنيات رفيعة تميزه عن غيره من العازفين.
إمتد تأثير الدكتور الماحي سليمان إلى الأوساط الأكاديمية كأستاذ ومعلم من خلال عمله في المؤسسات التعليمية الموسيقية، وساهم في تأهيل أجيال من الموسيقيين الشباب لإيمانه بأن نهضة الموسيقى في السودان تبدأ من الفصول الدراسية وذلك بتخريج كوادر فنية لديها الوعي الكامل بالجانبين الفني والعلمي و كان مرشدًا ومحفزًا للطلاب على استكشاف آفاق جديدة في التأليف والأداء مما يعطي بصمته و إرثه إستمرارا من خلال تلاميذه وأعمالهم.
يظل الدكتور الماحي سليمان أحد أبرز أيقونات الموسيقى السودانية المعاصرة و ما زال يؤسس لفلسفة قوامها فكرة أن الفن الحقيقي يجمع بين الموهبة والعلم و هو نموذج للمبدع الذي لم يكتفِ بما يملك من موهبة بل سعى دائمًا إلى تطويرها وصقلها بالدراسة والمعرفة ليثبت أن التميز الحقيقي يكمن في إثراء الفن بالعمق الفكري والأكاديمي.