الاقتصاد السوداني بين الانكماش الحاد واتساع الفقر: قراءة في ورقة بحثية
Admin 30 أغسطس، 2025 32
محمد كمير
خبير اقتصادي
• قرأت ورقة بحثية بعنوان «What Are the Economic and Poverty Implications for Sudan If the Conflict Continues Through 2025?» للباحثين مصعب أحمد، مريم رؤوف، وخالد صِدّيق، والمنشورة في The Journal of Development Studies في يونيو 2025، ووجدت من الأهمية نشر خلاصتها والحديث عن نتائجها، لما لها من دلالات عميقة على مستقبل الاقتصاد السوداني ومسار الفقر في البلاد.
منذ اندلاع الصراع في السودان في أبريل 2023، أصبح الاقتصاد يعيش واحدة من أعقد أزماته التاريخية، إذ أدت الحرب إلى تدمير البنية الإنتاجية، وتعطيل القطاعات الحيوية، وتفاقم معدلات الفقر والبطالة. التقديرات تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي قد ينكمش بنسبة تصل إلى 42% بحلول نهاية 2025 في السيناريو الأسوأ، بينما قد يتراجع بنسبة 32% في السيناريو المعتدل. هذه الأرقام تعكس عمق الأزمة، وتعني ببساطة أن الاقتصاد السوداني سيفقد ما يقارب نصف حجمه خلال ثلاث سنوات فقط.
القطاع الزراعي والغذائي كان الأكثر تضررًا، رغم كونه شريان حياة غالبية السكان، حيث تراجع ناتجه بنسبة 33.6% في السيناريو المتشائم، مع فقدان نصف فرص العمل فيه. هذه الخسارة لا تمثل فقط انخفاضًا في الإنتاج الزراعي، بل تؤدي إلى خلل في سلاسل الإمداد الغذائية، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وزيادة حدة انعدام الأمن الغذائي الذي يهدد أكثر من نصف السكان. ومع ذلك، أظهر القمح وبعض المحاصيل الأخرى مرونة نسبية مقارنة بمحاصيل تقليدية كالدخن والسمسم، وهو ما يفتح الباب أمام نقاش اقتصادي مهم حول إعادة هيكلة السياسات الزراعية لصالح محاصيل أقل هشاشة في مواجهة الصراع.
القطاع الصناعي شهد انهيارًا شبه كامل، إذ تركزت معظم المصانع في الخرطوم التي كانت مسرحًا رئيسيًا للقتال. خسائر الصناعة تجاوزت 90% وفقًا لتقديرات وزارة الصناعة، ما يعني فقدان قاعدة إنتاجية أساسية، كانت تمثل قيمة مضافة مهمة في الاقتصاد. في المقابل، أظهر قطاع الخدمات مرونة نسبية، إذ ساهمت حركة النزوح الضخمة في زيادة الطلب على بعض الخدمات كالنقل والإيواء، لكن هذا لا يخفي حقيقة أن الخدمات الأخرى المرتبطة بالنشاط التجاري والمالي أصيبت بالشلل شبه الكامل.
تداعيات الصراع على سوق العمل مدمرة؛ إذ تشير المحاكاة الاقتصادية إلى فقدان ما بين 4.1 و4.6 مليون وظيفة، أي حوالي نصف القوة العاملة. قطاع الصناعة كان الأكثر تضررًا، تلاه قطاع الخدمات، فيما أظهر العمل الزراعي قدرًا أكبر من الصمود. هذا التراجع انعكس على دخول الأسر، حيث انخفضت بمعدل يتراوح بين 36% و40% عبر مختلف الشرائح، الأمر الذي يعني أن الصراع لم يستثنِ الفقراء ولا الأغنياء. لكن الأشد تضررًا كانوا العمال الأقل تعليمًا والنساء في المناطق الريفية، وهو ما يعكس هشاشة البنية الاجتماعية أمام الصدمات الاقتصادية العنيفة.
معدلات الفقر قفزت بشكل دراماتيكي؛ فقد ارتفع المعدل الوطني بحوالي 19 نقطة مئوية، ليضيف ما يقارب 7.5 مليون سوداني إلى دائرة الفقر، بينما زاد فقر الريف بأكثر من 30 نقطة، ما يعكس الفجوة الكبيرة في قدرة الأسر الحضرية مقارنة بالريفية على امتصاص الصدمات. النساء أيضًا كنّ أكثر عرضة للانزلاق نحو الفقر، بسبب ضعف مشاركتهن في الأنشطة الاقتصادية المستقرة، واعتمادهن على أنشطة أكثر هشاشة في الريف. هذه التغيرات لا تعكس فقط أزمة آنية، بل تهدد بترسيخ حلقة مفرغة من الفقر يصعب كسرها حتى في حال توقف الصراع على المدى القصير.
من زاوية اقتصادية بحتة، تكشف هذه النتائج أن تكلفة استمرار الحرب تتجاوز الخسائر المباشرة في الإنتاج إلى خسائر تراكمية طويلة المدى، تتمثل في تآكل رأس المال البشري، انهيار الثقة في السوق، وانكماش الاستثمارات المحلية والأجنبية. الاقتصاد في مثل هذه الظروف يفقد ما يُعرف بـ»عائد السلام»، الذي يشكل القاعدة لأي نمو مستدام. ولهذا، فإن الخروج من الأزمة لا يقتصر على وقف الحرب، بل يتطلب حزمة سياسات متكاملة، تشمل إعادة بناء القطاعات الإنتاجية، دعم الزراعة والأمن الغذائي، إعادة تأهيل القطاع الصناعي، وإطلاق برامج حماية اجتماعية واسعة، تستهدف الفئات الأكثر هشاشة. كما أن الاستثمار في التعليم والتدريب المهني يظل عنصرًا حاسمًا لتقليل هشاشة العمالة الأقل تعليمًا أمام الصدمات.
الورقة البحثية نفسها أوصت بضرورة تركيز الجهود على إعادة تشغيل القطاعات الأكثر تضررًا، وخاصة الخدمات والأعمال التجارية والتصنيع، باعتبارها محركات رئيسية للنمو والإنتاجية. كما شددت على أهمية دعم النظام الزراعي والغذائي، من خلال توفير التمويل للمزارعين، وإعادة تأهيل سلاسل التوريد الزراعية والصناعات الغذائية. وأكدت على إطلاق برامج للتعافي في سوق العمل، تشمل التدريب المهني، ورفع مهارات العمال الأقل تعليمًا، إلى جانب سياسات لدمج النازحين في الأنشطة الاقتصادية. وأوصت كذلك بتعزيز برامج الحماية الاجتماعية، لضمان وصول الدعم إلى الأسر الأشد فقرًا والنساء تحديدًا، لتقليل معدلات الفقر، وبناء قدر أكبر من الصمود الاجتماعي.
الخلاصة أن استمرار الصراع حتى نهاية عام 2025 يعني أن السودان يقف أمام منعطف تاريخي، فإما أن يظل رهينة دوامة الانكماش والفقر، أو أن تُستثمر أي تسوية سياسية مستقبلية في إعادة بناء الاقتصاد على أسس أكثر عدالة ومرونة. والرأي الاقتصادي المنطقي يؤكد أن كلفة السلام مهما بدت مرتفعة، فهي تظل أقل بكثير من كلفة استمرار الحرب على الاقتصاد والمجتمع معًا.
شارك المقال