
لؤي إسماعيل مجذوب
ضابط سابق - باحث في شؤون الأمن الوطني والحرب النفسية
• قرار وزارة الثقافة والإعلام الأخير بإيقاف مديرة مكتب «العربية» و«الحدث» في الخرطوم يجب أن يُقرأ في إطار إدارة الأمن القومي وليس كإجراء إداري عادي. دور المكاتب الأجنبية داخل محيط العمليات لم يعد يقتصر على نقل المعلومة، بل يتقاطع مع متطلبات حماية المعلومات التشغيلية التي تؤثر مباشرة على نتائج المعارك وسلامة القوات.
البث المباشر والصور الميدانية والفيديوهات التي تنقل من ساحات الاشتباك توفر معلومات دقيقة عن مواقع التمركز، مسارات التحرك، أوقات الانتشار، ونقاط الإسناد. هذه بيانات تشغيلية لا تختلف وظيفياً عن تقارير استطلاعية يمكن للخصم استغلالها فورياً لتحسين هدفية ضرباته أو تعديل خططه التنفيذية.
الملاحظ في عدد من حالات الخسائر الميدانية أن تسرّب معلومات آنية عبر قنوات الإعلام خفّض من عنصر المفاجأة وعطّل إجراءات الحماية. عندما تُنشر صور أو مقاطع تُظهر تجهيزات أو مواقع إسناد أو أوقات دوريات، فإن هذا يفرض على قيادة الميدان إعادة تخطيطها أو كشف نقاط ضعف لم تكن ظاهرة سابقاً.
الإعلام يعمل أيضاً على تشكيل السرد العام — محلياً ودولياً — ما يؤثر على معنويات القوات وقدرة القيادة على إدارة الأزمة. حملات السرد المستمرة التي تبرز إخفاقات أو تُشكك في الكفاءة القيادية يمكن أن تؤدي إلى ضغط شعبي وسياسي يستنزف موارد القيادة ويشتت الاهتمام عن أولويات العمليات.
الفراغ المؤسسي في تنظيم عمل المكاتب الأجنبية داخل بيئة نزاع هو مشكلة حقيقية. غياب آليات تصنيف ونزع حساسية للمعلومات، مع عدم وجود ضوابط للبث الحي داخل مناطق عمليات، يترك العاصمة كمصدر لتسريبات تكسر معايير الأمن العملياتي. هذا يتطلب تحويل إدارة هذا الملف إلى أطر سيادية مشتركة بين الدفاع والداخلية والجهات الاستخبارية.
الاقتراح الأول عملي وفوري: إنشاء «غرفة متابعة سيادية للمعالجة الإعلامية» تعمل على مدار الساعة، مرتبطة تقنياً وقانونياً بجهات الأمن والدفاع. مهام الغرفة تشمل رصد البث الفوري، تقييم حساسية المواد، إصدار أوامر مؤقتة لحجب محتوى يعرّض الأمن القومي للخطر، والتنسيق مع وحدات الإشارة والاستخبارات لتحديد مصادر التسريبات.
بروتوكولات تشغيلية يجب أن تُسنّ: تصنيف واضح للمعلومات (عامة — حساسة — تشغيلية)، قوائم محظورات للنشر داخل مناطق العمليات، شروط للبث الحي، متطلبات مرافقة أمنية للفرق الإعلامية في الحقول الساخنة، وإجراءات مصادقة مسبقة على مواد تعرض خطط أو مواقع حساسة. كما يلزم نظام سجلات يوثق من نشر ماذا ومتى لتسهيل المتابعة والتحقيق.
إجراءات قانونية ودبلوماسية موازية ضرورية: اشتراطات تراخيص تشغيل سنوية محدثة لمكاتب قنوات أجنبية، بنود في التراخيص تسمح بالتحقيق وسحب الاعتماد مؤقتاً، عقوبات واضحة على خروقات نشر معلومات تشغيلية تصل إلى سحب الاعتماد وترحيل المتورطين، وإجراءات دبلوماسية للتعامل مع حالات التنسيق الإعلامي التي تثبت تعاون جهات خارجية مع قوى معادية.
بعديّاً، مطلوب بناء قدرات ميدانية: دورات تدريبية لضباط الربط الإعلامي داخل وحدات القوات المسلحة، فرق مختصة في تحليل البث المفتوح تعمل بتكامل مع الاستخبارات التقليدية، وتطوير أدوات تقنية لرصد البث الآني وتحليل أنماط التسريبات. هذه العناصر تعزز قدرة القيادة على استباق التسريبات بدل الاستجابة لها بعد وقوع الأذى.
التعامل مع الإعلام الأجنبي في زمن النزاع ليس مسألة علاقات عامة أو فرض رقابة مطلقة على الحريات، بل هو تصنيف عملي لتهديد حقيقي على أمن العمليات. إعداد إطار سيادي فني وقانوني شامل، مع إجراءات تشغيلية واضحة وتدابير تنفيذية فورية، سيقلل من أثر التسريبات ويدعم إدارة المعركة بخطوط خلفية آمنة ومنضبطة.
شارك المقال