الأوقاف في دائرة الضوء.. الوقف ومعادلة تأمين الاستمرار والتطور

64
محجوب الخليفة

محجوب إبراهيم الخليفة

كاتب صحفي

• في عالمٍ تتسارع فيه المتغيرات، وتتفاقم فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تزداد الحاجة إلى أدوات تمويل وتنمية تضمن الاستمرار، وتتيح التطور دون أن تستنزف الموارد أو تُثقل كاهل المجتمعات بالديون. ومن رحم الحضارة الإسلامية، يبرز الوقف كواحدٍ من أعظم الابتكارات المالية ذات الطابع الإنساني، ليس بوصفه صدقة جارية وحسب، بل باعتباره نموذجًا مؤسسيًا راشدًا لضمان الاستمرارية والتنمية المستدامة.

الوقف.. ليس فقط إحسانًا بل استراتيجية بقاء

الوقف في جوهره ليس مجرّد عمل خيري، بل هو صيغة متقدمة من التمكين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فهو يقوم على تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، أي حماية المورد من الزوال وجعل ريعه دائمًا في خدمة الإنسان والمجتمع.

لقد عرفت الحضارة الإسلامية الوقف باعتباره مؤسسة قائمة بذاتها، تُسهم في بناء المدارس، ورعاية المستشفيات، وتمويل الحرف، وتأمين الطعام والدواء، بل حتى إطلاق مشاريع بحثية وتعليمية سبقت عصرها بقرون. وكانت الأوقاف سببًا رئيسًا في رفعة مدنٍ مثل بغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق، إذ شكّلت شبكة أمان اجتماعي واقتصادي وثقافي قلّ نظيرها.

تحدي الزمن الاستمرار والتطور في آنٍ معًا

لكن التحدي المعاصر أمام الوقف لا يتمثل في كونه قائمًا من حيث الشكل، بل في قدرته على الاستمرار والتطور. فكم من أوقافٍ عظيمة ضاعت أصولها، وجفّت مواردها، وباتت عبئًا بدل أن تكون مصدرًا للنفع، لا لشيء سوى غياب الرؤية الإدارية والاقتصادية المتجددة، أو لقصور في الفهم الفقهي الذي يحيط بهذه المؤسسة.

لأنّ تحدي الاستمرار والتطور يتطلب تدفقًا ماليًا مستمرًا، فإن الوقف في زماننا لم يعد يحتمل النظرة التقليدية التي تحبس الأصل وتكتفي بمردود بسيط، أو تضع القيود التي تُعيق حركته. الوقف بحاجة إلى فهم فقهي عصري، يعيد تأويل النصوص بروح المقاصد، لا بجمود الحرف، حتى لا يتحول من وسيلة للنماء إلى رمزٍ للاندثار.

الفقه المعاصر وتجديد المنظور

الشريعة لم تشرّع الوقف ليكون ساكنًا، بل ليكون متحركًا، نافعًا، مرنًا، ومواكبًا لحاجة الزمان والمكان. وواجب العلماء والمجتهدين في هذا العصر أن يُعيدوا قراءة الأصول بقلبٍ اقتصاديٍّ يقظ، يوازن بين حماية عين الوقف وبين تطوير آليات استثماره، مستفيدين من أدوات العصر من حوكمة، وإدارة مالية، وتكنولوجيا معلومات، وذكاء اصطناعي، وأطر تشريعية حديثة.

الوقف اليوم يستطيع أن يُدار كما تُدار الصناديق السيادية، بل ويتفوّق عليها في البُعد القيمي والروحي والبعد الاجتماعي المستدام. ومع كل هذا، يحتاج إلى فقه مؤسسي متقدم، لا يقف عند حدود النيّة والعبادة، بل ينفذ إلى عمق التخطيط والإدارة والبناء.

نحو معادلة جديدة: حماية الأصل + استثمار المنفعة

معادلة الوقف المعاصر تقوم على ثلاثة أعمدة متوازنة:

الحوكمة الرشيدة تضمن الشفافية والمساءلة وحسن الإدارة.

الفكر الاستثماري: يحوّل الأوقاف من مصادر جامدة إلى أصول ديناميكية، تدر الأرباح، وتحقق التوسع.

التجديد الفقهي: يحرر الأوقاف من الجمود، ويعيد صياغة منظومة الفهم بما يخدم المقاصد العليا للشريعة.

بهذه الثلاثية، نستطيع تأمين الاستمرارية، وضمان التطور، وتحويل الأوقاف إلى رافعة تنموية حقيقية.

نماذج مشرقة من الواقع المعاصر

التجارب الوقفية الحديثة أثبتت أن الوقف حين يُدار باحتراف ووفق رؤية، يصنع المعجزات. نذكر على سبيل المثال:

الجامعة الإسلامية بماليزيا، التي تعتمد على الوقف لتمويل البحث العلمي وتطوير البرامج الأكاديمية.

أوقاف محمد بن راشد آل مكتوم في الإمارات، والتي مزجت بين الوقف والإبداع الإنساني في التعليم والمعرفة.

مبادرة أوقاف التقنية في السعودية، والتي أعادت ربط مفهوم الوقف بالتحول الرقمي وتمويل البنية التحتية للمعرفة.

من الميراث إلى المستقبل

الوقف ليس موروثًا من الماضي فحسب، بل هو رؤية مستقبلية قابلة للتجدد والتوسع. إنه دعامة من دعامات الأمن الاقتصادي والاجتماعي والروحي للأمة. وحين نفهم الوقف على حقيقته، كأداة دائمة لبناء الإنسان والمجتمع، فإننا لا نحافظ على تراثنا فقط، بل نُطلق العنان لإمكانيات حضارية هائلة.

وإذا أردنا أن نؤمّن الاستمرار والتطور في آن، فلا بد أن نجدد فهم الوقف، ونُطلقه من قيود الجمود، ونُدخله في قلب المعادلات الكبرى للتنمية والاستدامة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *