(الأنا) الكذوبة عند السودانيين وسجن الأوهام

211
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• لطالما راقبت بدهشة ذلك التناقض العجيب فينا كسودانيين، ننتفخ كبالونات زهواً بينما نغرق في مستنقع الوهم. لم تكن الأنا المتضخمة ظاهرة فردية عندنا كسودانيين، بل أصبحت مرضاً جماعياً عندما تحولت إلى وعي زائف بالذات، فغرق شعبٌ بأكمله في أوهام العظمة، بينما هو حقيقة يعيش على هامش التاريخ. والسودانيون، شأنهم شأن شعوب مقهورة عانت من التهميش والهزائم المتكررة، لجأوا إلى تضخيم الذات كآلية دفاع نفسية ضد إحساسهم العميق بالضعف. لكن هذه «الأنا الكذوبة» لم تكن تعويضاً بريئاً، بل تحولت إلى عائق أمام التقدم، وإلى غطاء سميك يُخفي تحته مآزق الهوية والانتماء.
من أبرز تجليات هذه الأنا المزيفة، ذلك الإصرار على اختلاق أمجاد تاريخية وهمية، أو المبالغة في تفسير أحداث الماضي لخلق سردية تفوق غيرها. فترى السوداني يتحدث عن «مملكة كوش» وكأنّه حمل رايتها البارحة، أو ننسج أكاذيب عن «السودان سلة غذاء العالم»، بينما أرضه لم تُستثمر بعد، وموائدنا خاوية، أو يتباهى بـ«شعبية الثورات السودانية» رغم تكرار إخفاقاتها. وحتى في أقسى لحظات الفضيحة، يلجأ بعض السودانيين إلى نزع الهوية عن المجرم، وكأنَّ الجريمة عدوى لا تصيب إلا «الآخر» الأجنبي، كأنهم يريدون تنقية هويتهم الجماعية من أي عارٍ، وكأن خطايانا قدسية.. كل هذا ليس سوى هروب من واقع مرير، إلى أسطورة جماعية ترضي الغرور وتسكت صوت العقل. وهذا لا ينفي وجود أصوات حاولت كسر هذه الدائرة، لكنها ظلت غائصة في محيط الأوهام السائد.
والغريب أن هذه الأنا المتورمة لا تقتصر على النخب، بل تسري في أغلب شرايين المجتمع، فتجد الفقير الذي لا يملك قوت يومه، يرفع رأسه بإباء زائف، وكأنه سليل السلاطين، والجاهل الذي لم يقرأ كتاباً يتحدث بثقة الفيلسوف. هذا النوع من الكبرياء المرضي ليس شجاعة أخلاقية، بل هو انعكاس لخلل نفسي غائر، إذ هو خوف من الاعتراف بالقصور، وضعف في مجابهة الحقيقة. إنه كمن يقف على حافة الهاوية ويغمض عينيه، ظناً منه أن عدم الرؤية يعني السلامة.
لكن الأخطر من الأوهام الفردية، هي النتائج الاجتماعية المدمرة لهذه العقلية؛ فالمجتمع الذي يعيش على أمجاد وهمية، يفقد القدرة على النقد الذاتي، ومن يفقد النقد الذاتي يفقد أداة التصحيح والتطوير. وهكذا يحكم على نفسه بالانكفاء، بينما يظل يردد كالمعتوه: «نحن شعب متفرد!»، بينما الأمم من حوله تبني وتخترع وتتقدم. لقد أصبح السودانيون أسرى لهذه الأنا المُقْعِدة، فرفضوا مراجعة أنفسهم، واستخفُّوا بالآخرين، وظنوا أن التاريخ سينتظرهم حتى ينهضوا من خيباتهم.
ولكن التاريخ لا يرحم؛ فالشعوب التي تعيش على أوهامها تُدفن تحت رمال الزمن، بينما تترك الحضارة وراءها فقط أولئك الذين يملكون شجاعة مواجهة نقائصهم. السودانيون اليوم أمام سطوة الواقع وبِسِيلته، إما أن يستمروا في رقصهم على حافة التاريخ، مستمتعين بأوهام الاختيال، وإما أن يكسروا مرآة الأنا المخادعة، ليروا انعكاسهم الحقيقي، وليبصروا تشوهات وجوههم.. ويعوا أنهم كبقية الشعوب، لهم إسهاماتهم وإخفاقاتهم، لكنهم لن ينهضوا إلا إذا تخلوا عن المظنون واستمسكوا بالمُنجز.
الخيار الأخير يلوح لي كجسر وحيد، هو أن نتعلم فن التواضع الشجاع. أن نعتز بما نملك حقاً لا بما ندعيه، وأن نضحك على أخطائنا قبل أن تبكينا، وأن نصنع مجداً حقيقياً من رماد أوهامنا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *