
حمدي عباس إبراهيم
مستشار اقتصاد زراعي
• منظمة الفاو العالمية، قبل سنوات عديدة، وفي إطار مهامها عن الغذاء العالمي، صنفت السودان مع أستراليا وكندا كأمل عالمي في توفير الغذاء ومحاربة الجوع، وسد الفجوة في الغذاء العالمي، نتيجة لما يحدثه الازدياد المستمر في عدد سكان العالم. المعيار الأساسي لهذا التصنيف هو غنى تلك الدول الثلاث بموارد طبيعية متنوعة ومتجددة، وفي مساحات شاسعة أغلبها غير مستغل وقت ذلك الإعلان والتصنيف.
ظل السودان في حالة عدم استغلال لموارده الطبيعية منذ تاريخ إطلاق (الفاو) تصنيفها وحتى تاريخه. بل وبكل أسف ازداد الحال سوءاً بتدهور مريع في إنتاجية معظم المحاصيل. إضافة إلى عزوف وهروب الكثير من المستثمرين الأجانب من الاستثمار الزراعي في السودان، لانعدام العوامل الأساسية المشجعة على ذلك من استقرار أمني أو سياسي وغير ذلك.
والأدهى والأمر صار شعار (السودان سلة غذاء العالم) أشبه بمزحة، ومجال صراع سياسي بين الكتل المصارعة على السلطه. ثم ازداد الأمر تدهوراً حين دخلت قيادات متنفذة في الحكم خلال العقود الثلاثة الماضية، بعد اكتشاف البترول ثم الذهب، في وهم أن الزراعة في السودان لم تعد من الأولويات. وتطور حجم ذاك الوهم ليصبح تدميراً ممنهجاً لمعظم مكونات هذا القطاع، وأهمها مؤسسات الري الهندسية، والشركات التسويقية العامة لمحاصيل الزراعة، والبنوك المتخصصة في مناحي الزراعة المختلفة. وأخيراً منذ أبريل ٢٠٢٣ ازداد الطين بلة بنشوب هذه الحرب الضروس في أواسط السودان وغربه، وكلها تعتبر من أهم المناطق الزراعية بكل أنماطها (مطرية أو مروية، نبات أو حيوان، تخزين أو تصنيع).
ومن أهم آثار هذه الحرب التدميرية في مجال الأمن الغذائي، انقطاع طرق توصيل المدخلات أو المنتجات على السواء، بين ولايات التسويق وولايات الإنتاج (الآمنة نسبياً من الحرب المباشرة).
لكل ما ورد أعلاه، تصبح قضية الأمن الغذائي في السودان قضية جوهرية أساسية جداً، خاصة في هذه الفترة من تاريخ البلاد. ولذا يجب أن تجد أقصى درجات الاهتمام والأولوية لدى الدولة، وكذلك لدى كافة أصحاب المصلحة الحقيقية في القطاع الزراعي.
إن أولى وأهم الخطوات المطلوبة من أعلى سلطات حاكمة في السودان، اعتبار تحقيق الأمن الغذائي عملاً موازياً تماماً للعمل العسكري الجاري في مناطق العمليات الحربية. كل الميزانيات والإجراءات والأولويات التي توجه لدعم وإنجاح العمل العسكري، يجب أن يكون للأمن الغذائي النسبة الكافية التي تحقق ذلك الهدف. أما من ناحية التخطيط المحكم والتنفيذ والمتابعة اللصيقة لبرامح الأمن الغذائي، فيجب أن تكون هذه المهمة على عاتق اللجنة الاقتصادية العليا، برئاسة السيد رئيس الوزراء، وعضوية السادة: وزراء الزراعة والري، المالية، الثروة الحيوانية إضافة لمحافظ بنك السودان وقائد جهاز الأمن الاقتصادي. عمل هذه اللجنة وأي لجان ولائية مماثلة لها في مناطق الإنتاج، يجب أن تبدأ فوراً لإنجاح الموسم الصيفي الحالي، وكذلك الشتوي لسنة ٢٠٢٥. كما يلزم أن تضع كافة التدابير المبكرة للموسم القادم ٢٠٢٦. ومن أهم التدابير التي يجب أن تتخذها اللجنة العليا واللجان الأخرى، استنفار الجهات الشعبية مثل لجان المقاومة الشعبية والمستنفرين الشباب وغيرهم للمشاركة الفاعلة في تنفيذ خطط تحقيق الأمن الغذائي.
كما نشير هنا لأهمية موضوع التسويق والتمويل في تحقيق الأمن الغذائي، خاصة وأنها تعتبر من أكبر المعوقات التي أدت لهذه الحالة حتى قبل الحرب.
لا بدّ والدولة مقبلة على إعداد ميزانية عام ٢٠٢٦ أن تتضمن الميزانيات الكافية لتحقيق الأهداف، وتنفيذ برامج تأمين الغذاء كافة، أسوة بما يتم في الجانب الحربي. وأيضاً بالتوازي مع ذلك، نقترح إعفاء أو تجميد كافة المديونيات الخاصة بالدولة أو البنوك المتخصصة على مؤسسات الإنتاج الزراعي والمنتجين، على الأقل لمدة عامين. وفي ذات الفترة إلزام أجهزة الدولة المالية؛ مثل بنك السودان بتمويل إعادة تعمير البنيات الأساسية والاحتياجات اللوجستية في مناطق الإنتاج. بينما تتولى البنوك المتخصصة؛ مثل البنك الزراعي وبنك المزارع والشركات الزراعية تمويل برامج الإنتاج والتسويق. كما يتم تشجيع التمويل الذاتي بواسطة المنتجين المقتدرين.
وبما أن الإنتاج الزراعي بطبيعته يجابه الكثير من المخاطر الطبيعية، فنرى التركيز أكثر على القطاع المروي. يجب أن يكون للتأمين الزراعي دور أكثر فعالية ومرونة مما هو حادث خلال العقود الأخيرة. ويجب أيضاً التركيز في المشاريع المروية على محاصيل الأمن الغذائي المعروفة في السودان، ويعتمد عليها المواطن كغذاء أساسي.
ولضمان تنفيذ كل الخطط على المستوى الميداني؛ خاصة في المشاريع المروية، لا بدّ من مراجعة كفاءة ومقدرات القيادات المهنية والإدارية، وتكليف قيادات ذات خبرة حقيقية وكفاءة ومقدرات شخصية تناسب هذه المهمة الجوهرية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان.
نلخص كل ذلك في أن الأمن الغذائي والمجهود الحربي العسكري وجهان لعملة واحدة من حيث الأهمية والأولوية لمواطن السودان.
شارك المقال