
العجب عبدالكريم العجب
كاتب صحفي
• منذ صحوي فجراً تدور بخلدي بعض الأفكار التي تحتاج إلى متكأ وبعض المزاج لترتيبها، والمفاضلة بينها في أيها يصلح للتدوين، فطفقت أنقب عن ذاك المتكأ، قادتني أفكاري أو بالأصح إحداها إلى ضل فسيح اتخذه البعض سوقاً لعرض بضاعتهم سائمين وبضاعة سلوكهم هائمين، وهذه هي الفكرة التي جعلت هذا الضل متكاي.. في مدينتي ودمدني وبعد ما يقارب العامين من سيطرة الأوباش عليها، طرأت متغيرات على السلوك الفردي والجماعي معاً، الشيء الذي جعل ذهني يحتشد بأسئلة تبحث عن إجابات، مما حدا بي لاختيار هذا العنوان، و الذي عند قراءته قبل الخوض في متن موضوعه يتبادر إلى الذهن الخوض في كشف علمي جديد، غير أن الأمر هو كشف لمتغيرات الشخصية السودانية عموماً، والمدناوية على وجه الخصوص سلوكاً.. برغم مآسي ومساوئ الحرب، وحياة العنت والقهر والذل التي مرّ بها من رابط داخل بيته، نجد هناك محاسن جناها من صندد ورابط، أولها كم الجلد والصبر الذي نوال مقابله باب في الجنة عند رب العالمين، وحكمة وصواب رأي عند المواقف التي تجعل الصلب يلين، وهذا من واقع تجارب كنت عليها شاهد عين. وثانيها قد اشتهر وعرف به السودانيون تكافل وتكاتف لم تره من قبل عين، تجد الحي الذي بعد النزوح تقلّص ساكنوه إلى بعض الأسر، صار مطبخهم واحداً، اختاروا أكثر البيوت أعداداً من حيث الأفراد وآمنها من حيث الموقع والإمكانات، اختاروه مكاناً لتناول وجباتهم، وفي ذلك يستوي المعدم ومن صنع الإدام. وثالثها الألفة والمحبة التي أضحت سمة وسمت كل سكان المدينة الموجودين بها، يلاقونك وإن لم تكن بينك وبينهم سابق معرفة، بازلي الود والألفة والمحبة، عناقاً في التحايا، وابتساماً في السلام، حنية في السؤال عما أصابك من بطش الأوباش..
وأوسع وأشمل محاسن الحرب، الاتجاه إلى الله والعبادة، والتي كانت عند البعض تأتي بعد العادة، فكانت أماكن أداء الصلوات مساجد كانت أو زوايا هي نادٍ ومنتدى ولتفقد بعضنا بعضاً، وتداول الأخبار عما يجري وما هو جارٍ بيننا، ومن طرائف جلسات المساجد وأمانها، بعضهم جعلها نزلاً، والكلاب عند سماعها صوت الذخيرة- والتي ليس لها وقت أو سبب عند أولئك الأوباش لإطلاقها- عند سماعها تسرع الكلاب جرياً للمسجد، ويا سبحانك ربي بيتك آمن من كل بيوت الحي.. وهذه زادت قناعات البعض بارتياد المساجد. والأمثلة تترى، وهي ما قادني لاكتشاف آخر لبعض والشخوص الذين أظهرت معدنهم الحق المحكات وهذه الحرب أجلّها، فكم من مستهتر أصبح قدوة لمجموعة جيرانه، وكم من لاهٍ أضحى لا يفارق حلقات التلاوة، وكل هذه الخصال لو لم تكن بذورها مغروسة في دواخلهم، لما أينعت وطاب طعم ثمارها عملاً نافعاً، وكما لكل قاعدة شواذ واستثناء، فإن الكشف الآخر ما تطرق له الكثيرون، وأحسب أن نشر الفضائل يميل كفة الرذائل ويرجحها، لأن الإنسان بفطرته جُبِلَ على الجزع عند الشر، والهلع عند الخوف، والتمنع عند الامتلاك،، ومن هذا الباب وفي الكشف لبعد آخر في خبايا الشخصية ما يدمي القلب ويندى له الجبين، حين ترى من يتطاول سور جاره بحثاً عما غلا ثمنه وخف وزنه، ظاناً أن الجوع الذي يدثر به خيبات فعله يحلل هذا الفعل المقيت الشائن.. والأسوأ منها ذاك الفتى الذي أكمل فتونته بارتداء زي الغواشم الأوباش، وسلك دربهم نهباً وترويعاً..
ثالثة الأسافي من جعل الحرب قَرعة يمدها متسولاً، حتى صارت له مهنة، والأنكى متذرعاً بحوجة الجيران والأهل والعشيرة، والخطر ظهور سلوك إجرامي شخصية السوداني لوقت قبيل حرب الشؤم هذه براء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، والذي شاهدت ضحيته في ذلك الضل الذي جاء في مقدمة مقالي هذا، وحكى لي وهو يعض البنان أسفاً، ليس على ما فقد، لكن على القيم التي أفقدتنا لها الحرب. النخوة والشهامة والرجولة، حيث تعرض لفعل جبان من أحد النظاميين بسرقة دراجة بخارية منه، زاعماً أنه يود شراءها، مستأذناً في تجريبها، الذي أظنه صار تمليكاً، حيث فرّ بها مخلفاً وراءه شاباً يعول أسرة برأسمال ركبه ذاك السارق، تاركاً خلفه سمعة أخجلت زملاءه، معرداً كما يقولون للفارين في أدبياتهم.
الكشف الآخر في الشخصية، نتاج ما يمليه الواقع المعاش على بيئة محاطة بكثير من الرهق والمعاناة، والتي في واقعنا بدلت الإبداع بالتناقض، والقادم لا بدّ يكون أحلى..
ودّي وإلى لقاء .. في ضل أرحب.
شارك المقال