
الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• في الوقت الذي يُخرج فيه المواطنون في ولاية الجزيرة أنفاسهم الأخيرة تحت وطأة الأزمات الاقتصادية الخانقة، وتحاصرهم آثار الحرب المدمرة التي مزّقت حياتهم وشققتها، تخرج حكومة الولاية بقرار يزيد من عذابهم وأوجاعهم، وكأنها تبحث عن أي خرم لاستنزاف ما تبقى من قوتهم. فبدلاً من أن تمدّ لهم يد العون، أو تخفف عنهم عبء الحياة، ها هي تُطلق حملة ترخيص العربات ورخص القيادة باحتفالٍ رسمي مهيب، وبرسوم تبلغ 600.000 جنيه (600 مليون بالقديم) لترخيص العربة الواحدة، وكأنها تعلن عن مشروع إنقاذ، بينما الحقيقة أنها تفتح باباً جديداً لامتصاص دماء الناس.
لقد جاء الإعلان عن بدء معاملات الترخيص بحضور الوالي ومسؤولي الأمن وكبار موظفي الولاية، في مشهد يفتقر إلى أدنى درجات الإحساس بمعاناة المواطن. ففي حين يعاني الناس من شظف العيش، وارتفاع الأسعار، وانعدام الخدمات الأساسية، يُطلب منهم الآن دفع رسوم تراخيص مضاعفة، وكأنهم (البقرة الحلوب) التي لا تنضب، كما يبدو في عيون المسؤولين. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: أين هي الأولويات؟ هل يعقل أن تكون هموم الحكومة في هذه المرحلة هي تحصيل المزيد من الأموال من جيوب الناس، بينما الكثيرون لم يجدوا عرباتهم أصلاً؟
لقد تحوّل المواطن بعد عودته، في ولاية الجزيرة إلى مجرد رقم في سجلات الجباية، يُستغل في كل منعطف، ويُحاصر بضرائب ورسوم لا تُناسب واقعه المزري. فبعد أن دمّرت الحرب البنية التحتية، وشردت الأسر، وأفقرت الناس، ها هي الحكومة تزيد الطين بلّة بفرض مزيد من المتطلبات المالية، دون أن تقدم أي حلول حقيقية لمشكلات المواطنين. بل الأكثر قسوة أن يُقدَّم هذا القرار على أنه (إنجاز خدمي)، بينما هو في جوهره نهش للمواطن الذي لم يعد يملك ما يدفعه.
إن ما يحدث هو انتهازٌ فاضحٌ لظروف الناس البائسة، حيث تُفرض عليهم متطلبات مالية في وقت هم بأمسّ الحاجة إلى الدعم والإعفاءات. فبدلاً من أن تعلن الولاية عن إجراءات تخفيفية، أو مساعدات عينية، نراها تطلق حملات تحصيل الأموال بزعم (تحسين الخدمات)، بينما المواطن يتساءل: أي خدمات هذه التي تُفرض عليه رسومها ولا يراها؟ وأي حكومة هذه التي لا ترى في مواطنيها سوى مصادر للتمويل؟
إن فرض وزيادة رسوم ترخيص العربات في هذه الظروف ليس سوى صورة أخرى من صور اللامبالاة بحياة الناس، وإمعانٍ في تعميق أزماتهم. فحين يكون المواطن منهكاً تحت وطأة الغلاء والدمار، يكون من الواجب على الحكومة أن تبحث عن سُبل إنقاذه، لا أن تزيد من أحماله. لكن يبدو أن منطق (الجباية) هو السائد، بينما حقوق الناس ومعاناتهم تُترك في آخر سلم الأولويات.
إن المواطن السوداني، وخاصة في ولاية الجزيرة، لم يعد يتحمل مزيداً من الاستغلال. فالحكومة مطالبة اليوم بأن تراجع سياساتها، وتتوقف عن النظر إلى الناس باعتبارهم مجرد (أرقام في سجلات المالية)، و(صراف غير معيّن لكشوفات الرواتب)، وأن تبدأ بخطوات حقيقية تخفف معاناة المواطنين، بدلاً من أن تزيدها. فالشعب الذي عانى من ويلات الحرب والانهيار الاقتصادي يستحق التعاطف والدعم، لا أن يُترك المواطن فريسة للاستنزاف والاستغلال، لسدِّ عجز رواتب موظفي الدولة العاجزين حتى عن خدمته.
شارك المقال