(استخارة).. «استخيروا يا أبناء الفرح وورثة الحب ..»

33
نظرة يسار سارة عبدالمنعم

سارة عبدالمنعم

كاتبة روائية

• تعبتُ – يا صديقي – من مرافقة قلوب تُفلِتُ تشبُّثِي بها كلما اقتربنا من بداية النهاية. تعبتُ بحسن ظنٍ يُسوِّل لي أن ذلك الذي ابحثُ عنه يشابهُ من هو معي الآن! تعبتُ من حُلُمٍ ظل يُراوِدُني بأن قلبي الصغير لن يتسع لافراحٍ قادمة. قلتُ لك «ليحقق الله أمانينا»، وردَّدتُ في سري «دعاء الاستخارة»، وضحكتَ أنتَ بعلوِّ الصوت وقهقهتَ معي حين قَصَصتُ عليك كيف أن أبي علمني «صلاة الاستخارة»، وصرتُ أستخير في كل أمر، وأنني كلما فعلتُ صاح قلبي الصغير ‘كفانا وجعاً’. وهكذا .. كان كل من أحببتهم لم يكن لي فيهم خيراً. وصحتَ كطفلٍ كستهُ الدهشة انبهاراً واعجاباً وفرحاً برؤية أمِّه بعد طول غياب لا يتعدى في الأصل ساعات. وصار صوتي خافقاً بالحسرة حين ردَّدتُ، وما زالتُ، أمنيتي الواحدة، أردِّدها في كل عام، وتظل المواسم وأعيادها تحرِّضُ رغبتي في تحققها .. هل سألتقي بذلك الحُلُم؟ 

قل لي – يا صديقي – هل ما زالت حياتي تتَّسعُ أيامُها لانتظار حُلُمٍ لم يتحقق؟ ومتي سأسعد به؟ وكيف ذلك إن سرقَ العمرُ شبابي؟ أتعلَم، أنا لا أعرف الفرح إنْ لم أستأذن الحزن، ربما صرت اعشَقه! لا تضحك – يا صديقي – فقسماً بالحب الذي أشتهيه، لم أكن لأفرحَ بأحدهم وأرضَى بحزني من رحيله إن لم  أخادع نفسي باحلامي أن تكون فيه. كنتُ أندلقُ بكلِّ مشاعر احتياجي، متنازلة عن ذاتي من أجل قليلِ إهتمام، تأتي بصوت يهاتف حواسي من باب الشوق والاطمئنان. أغلقُ كلَّ أبواب الحياة تجاه باب أحدهم، وأظل أردِّد أنه هو، واخرسُ حديثاً بدواخلي يُخيفني بأنه ليس من تستحقين! وكم ظننتُ في قلبي الغُرور والكِبَر، وشجبته بأنه سيظل وحيداً، ولن يجد من يرتِق غورَ جراحه العميقة، لكنه كثيراً ما كان يُخرسني بأنه يشعرُ جيداً بمن أدخله عليه، وأنه، وإن كان سعيداً بسعادتي، فهو حزينٌ من نهاياتٍ قادمة، يُثْبِتُ فيها دعاء وصلاة استخارة صدق تنبئة. وليتني حكَّمتُ عقلي وأعَدتُ إليه رُشدَه لألفت انتباهه لنبرةِ صوتٍ متغيرة، لمزاجيةِ تعامل، لغيابٍ في عز ذروة احتياجك، لرحيلٍ في وقت تسأل الله ان لا يكون الغياب طويلاً. وتصبر لحين عودته لا لشيءٍ سوى أن قلبي الصغير لا يحتمل الحزن وحيداً. وكم ندمت. 

وتنحنحت. واستعدت صوتي من عَبَراتٍ ودموعٍ كادت ان تُوقظ ضَعفِي، ألبستها التَّجلد فلم أكن يوماً قوية إن لم يَمَس الحزن قلبي، وابتسمت. وهمست لصديقي أني أردتُ القولَ بأني ظننتُكَ أحدهم! لا تضحك، فقد ردَّدتُ أمامك دعاءَ الاستخارة، نسيتُ بأنكَ صديقي الذي لم يتخلَّ يوماً عني، وأنك صديقي الذي يُسعِدُني ويفهمُني ويقرأُ صمتي، ويحتملُ حماقاتي حين غضب. صديقي الذي رَتَق قربه كل جرح خلَّفته أفراح خداعٍ مغادِرة، وأني به صرتُ الأجمل. كنتُ سأستخير الله فيك وأنت صديقي، وقد نسيت ذلك!

وللمرَّةِ الأولى منذ أعوام من عِشقِي لقربِه وقت احتياجي، بل في كلِّ وقت، لم أختم حديثي بمقولتي التي تَهبنِي ابتسامة فرح تحدثني عيناه عنه. لم يكن يُقاطعُ حديثي. كان دائماً ما ينتظر خاتمة قولي بأني سعيدة بأنه معي، وأنه أكثر من صديق ورفيق، واسأل الله ان يظلَّ بجِواري ما حييت، وأنني أحبه.

هذه المرة لم ينتظر كلمات تأذن له بالحديث. ولأوِّلِ مرة يقشعرُّ قلبي هكذا، كيف ذلك وليست  المرة الأولى التي يُردِّدُ فيها أنه يُحبُّني، يا إلهي!

هل كان حُلمي أمامي طِوالَ تلك الأعوام وانشغلتُ عنه برحلةِ بحثٍ للعثور عليه ..؟!

وانهمر دمعي حين إعتلت الحسرة والندم صَدَى صوته المردِّد «ليتكِ صلَّيتِ يوماً من أجلي. ولماذا لم تفعلي ..؟!

وبكيتُ بدمعٍ جديد الطعم على لَهَاةِ خدودي الباهتة. تلألأ بُؤبؤ أفراحي ناظراً لرجلٍ كان وظلَّ وجوده في حياتي يسعدني، ويحفني بالسلام، وصحتُ به ‘قلبي الصغير لا يحتمل’. شاكسني بأن قلبي ظلَّ صادقاً في إحساسِه. لم أعاتبه على صمتٍ أهدرَ عمري ونِلتُ بسَببِه كثيرَ خِذلان. كنتُ أشدُّ شوقاً لقهقته التي تُبدِّد حزني كلما جئتُ به إليه شاكية من ثِقَلِ حِملِه. ضَحِكَ كما أحب حين قولي بأني أخشى من أن أفقده بعد صلاة استخارة، واحتاج قربه، فشعوري فيه ظلَّ الأمان والثقة. يكفي أنني أراه مرآتي وسعادتي كلما ضلَّلني الحُلم وكذَّبَ صدق قلبي الواجف من  مُرِّ الحقيقة.

ولكن صديقي أخرسَ ضَحَكاتِي وزاد مِداد دمعي حين قوله بأنه مدين لأبي الذي علمني صلاة ودعاء الاستخارة، وأنه ظلَّ طِوال أعوام قربي يستخيرُ الله كي يجمعني به، وأن لا شيءَ عذَّبه سِوى إحساسِه بأني سأكونُ له ذاتَ يوم، رغم أني اخترتُ سواه مراتٍ عديدة، وانه كان سعيداً بسعادتي فاكتفى بدور صديق إلى أن يحين موعد تحقُّق حُلمه بأن يرتقي في قلبي، ويُصبح رجل حُلم أختاره رفيقَ عُمرٍ وسعادة.

يكفي يا حرفي العائد بعد طولِ غياب. دَعنِي أسال الله أن يعجِّل لي بأمرِ فرحٍ أتمناه، وغداً، بمشيئة الرحمن، سأقُصُ بحرفي عن قصَّةِ حُلمٍ ظلَّ معي وأنا باحثة عنه، فغداً سأُنجب أطفالَ أمنياتي، وأُريدُ أن يعرفوا عني ما لا تستطيع شفاهي الإقرار به. سيقرأون عن أمِّهم ضَعفها وحزنها ليكتشفوا سرَّ عِشقِي وهُيامي لأبيهم، وأني لم أكن كما ظننتُ قويةٌ بالحزن، بل كان وظلَّ رجُلي سر قوتي وصلابتي، وأني حين أصدر أوامري دون نقاش إلزاماً لهم بصلاةِ ودعاءِ الاستخارة كنتُ على حق، فلن أقبلَ عليهم إهدار وقتهم ومشاعرهم في حب شيءٍ سيكون شراً لهم. وهذه وصيتي بعد أن يَقصُر عمري «استخيروا يا أبناء الفرح وورثة الحب، فقسماً لو لم تنسَ أمُّكم ذلك لكنتُم أكبر من اعوامِكم بكثير» ..

(عن جابِرٍ، قَالَ: كانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ في الأُمُور كُلِّهَا، كالسُّورَةِ منَ القُرْآنِ، يَقُولُ: إِذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَركَعْ رَكْعتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ ليَقُلْ: اللَّهُم إِني أَسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأستَقْدِرُكَ بقُدْرَتِك، وأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ).

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *