
سارة عبدالمنعم
كاتبة روائية
• حبُ الأغرابِ الذين يقابلونني بابتسامةٍ، كمبتسمٍ ضَحِكتْ عيناهُ من قصةٍ حكيتُها لصديقٍ كان يجلسُ قُربَه، وآخرُ يبتسمُ بالتحايا لمجرَّدِ مروري بتلويحةِ السلام َوعباراتِ الصباح. ابتسامةُ الغريبِ أكثر دفئاً، فلا عطاءَ أجمل من أن يأتيك دون معرفةٍ وبكاملِ الصدفة..
الصدفةُ التي جعلتَها تخرجُ من بيتِها في أمسِيةِ عُطلةِ أسبوع، ترتدي بِنطالاً وقميصاً قصيراً، عكست منه ألوان النمر تمرداً جادتْ به صاحبةُ الحذاءِ الأسودِ البيج ذي الكَعبِ، وكانت حقيبةُ يدِها بذاتِ اللونين.
تسلَّلتْ ليلاً، رغم أن لا أحدَ سيمنعُها من الخروج. ضَحِكَتْ في طريقٍ طويلٍ تمضي فيه وحيدةً، لكنها تُغنِّي وتقفزُ وتهرولُ بكاملِ المرحِ والفرح. كانت تشعرُ أن بعد ذلك الصبر جَبراً، وأن السعادةَ في كُلِّ مكانٍ تذهبُ إليه. دُلِفتْ إلى المقهى القريبِ من بيتِها. كان لحنُ الغِناءِ يتحدثُ عن الشَّوقِ، ومَنْ سِواهَا تعرفه! تمايَلتْ منذُ خُطوةِ الدخولِ الأولى نحو المُغنِّي الذي بادَلهَا الابْتسَام والرَّقص، وبشوقِ وافتِقادٍ عانَقَها بالسلام. كان على يمينِ المدخلِ شعورٌ غريب! لحظة دخولها التفتَ إليها أحدهم بنظرةٍ وابتسامةٍ عريضة، ورغم كل الأنظار، أيقظتْ نظَرَاتُه شعوراً آخرَ من طربٍ، فتمايلتْ مبتعدةً عنه، فحتماً ستفقِدُ خُطواتها الإتِّزان، وربما تسقُط!
جَلَسَتْ منزوية، وكوبَ قهوةٍ جاءت به النَّادلةُ دون حتى سؤالَهَا، ومِنفَضَةَ دخانٍ، ومناديلَ ورقية، وقارورةَ ماء، فابتسمتْ لها شكراً جزيلاً. أشعلتْ دُخانها وجَلَسَتْ واضعةً ساقاً فوق أُخرى، تتَجمَّلُ بضَحَكَاتٍ تَشاركتَها مع إحدى العاملاتِ، ورويداً رويداً كانت مُحاطةً بالعاملينَ يتقاسمون الضَّحَكاتِ والمُشاكساتِ فيما بينِهم، يروون عنهم حَكايَا ومواقفَ بين الطُّرفةِ والإحراج، ويضحكون. كانت ممتنَّة لسعادةٍ دون موعدٍ، ودون لقاءٍ، وبكاملِ الصدفةِ أُهْدِيتْ لها من هؤلاءِ البُسطاء. خرَجَتْ لمقعَدِها بعد أن تعَالَتْ أصواتُ الصَّالة بإخراسِ أصواتِهنَّ المجَلجِلةِ صُراخاً وضَحَكات. ظلَّ صاحبُ النَّظَرَاتِ في مكانِه. التقتْ نَظَرَاتُهما، جاهَدتْ بالابتعادِ عنها، وبعد زفيرِ أنفاسٍ من سيجارتِها، أعادتْ النَّظرَ فوجدته قابعاً فيها. رمقتهُ بنظرةٍ جافةٍ أعلنتْ فيها قليلَ تذمُّرٍ، وكثيرَ توسُّلاتٍ أن يتركَ نَظَراته تلك فهي مُربِكة، وماذا يُريد ..؟! تمنَّعتْ عنه، وقَضَتْ لحظاتها بين رقصٍ، وغناءٍ، وفناجينَ قهوة، مبتسمة لأجنبيةٍ راقصةٍ لا تعلمُ هل أسَكَرَها اللَّحنُ أم الكأسُ، فلمحتْ رجلَ النَّظرةِ قادماً نحوَهَا. وكالملسُوعة احتمتْ بالجُّلوسِ عند مقعدِها، ولم يقفْ خَطُوه، جاءَها بابتسامةٍ، وصوتِ تحايا فخيمٍ، وعطرٍ أنيقٍ، وتمنَّت لو أنه يُقبِّلُ يدَها، فيكتملَ مشهدَ فيلم لبِرنْسِيسةٍ كانت في لقاءِ أميرٍ يهيمُ بها بعدَ هذا اللقاء. ولكن صاحب النَّظراتِ كان جريئاً فطلبَ منها الجُّلوس معه، وأبدى إعجابه برقصِها، ولم يُمهلها للرَّفضِ، فقد أخبرَهَا أنَّ فيها شييءٌ مُميَّزٌ جداً، لا تحمله كل فتيات هذا المكان، وأنه سألَ عنها وعلِمَ من تكون، وهو سعيدٌ بانضمامِها له، وليتَ الحمقاءَ قَبِلتْ دون تردُّدٍ! بل عادتْ لردودٍ عنجهيةٍ غبيةٍ حين أشارتْ بجُلوسِه هو معها، ولمَحَتْ نَظَراتَه لمقعدِها الوحِيد، فابتسمَ هامساً لها «أعلمُ أنكِ دائماً ما تجلسين عند هذا الرُّكن في مقعدِك الوحيد، لكنني سأقضِي الليلةَ واقفاً، فهل يُرضِيكِ ذلك؟! لن أعُضك .. فتعالي».
لا أعلمُ ما حدثَ في تلك الليلة، فقد سمِعتُ تلك المجنونةُ تسألُ نفسَها عن أرقامِ «الكارت» الهاتفي لصاحبِ النظرات، واسمه المنحوت بالذهبي، هل تتصلُ عليه بعدَ ثلاثِ ليالٍ من تلك الليلة، أم تترُكَه قليلاً، قليلاً وليسَ للأبد، فهناك ابتسامةٌ لا تُنسي، وأجملُ ما فيها حين تجئُ من غريبٍ لا يرجو منكَ امتناناً، بقدرِما هو صادقٌ دونَ خوفٍ، ودونَ احتمالاتٍ في أن يَهَبَك سعادتَه بشيءٍ فيك.
شارك المقال