
د. عبدالمنعم علي قسم السيد
المستشار الوطني لاستراتيجية التحول الزراعي المستدام SATS
• إنجاز التحول الزراعي في القطاع المروي عن طريق نماذج شركات المساهمة القابضة والتعاونيات الزراعية
يعاني القطاع الزراعي المروي من مجموعة من الاختلالات والتشوهات التي أعاقت إمكانية تطويره عبر المائة سنة الماضية من عمره، الذي ابتدأ بإنشاء مشروع الجزيرة في العام 1925م، والتي من أبرزها فجوة السياسات الزراعية وعلاقات الإنتاج، المتمثلة في ضعف المواءمة بين طموحات المزارعين والمصلحة العامة، وضعف التمويل الزراعي، وهيمنة نظم الإنتاج التقليدية (الدورات الزراعية لتركيبة المحاصيل الحقلية المبنية على محصول القطن)، وصغر الحيازات الزراعية، وضعف العلاقة القانونية بين المزارعين والحيازات الزراعية، وضعف إنتاجيات المزروعات (تدني الغلة لكل فدان)، وتدهور البنى التحتية (شبكة الري، الطرق، المحالج، المستودعات)، وتدهور البيئة وتآكل التربة، وغياب التأمين الزراعي، وغياب نظم الحوكمة والشفافية.
ولمعالجة هذه الاختلالات والتشوهات، لا بدّ من تبني استراتيجية وطنية للتحول الزراعي المستدام، قائمة على الشراكة القوية بين الدولة، والقطاع الخاص، والمزارعين، يتم في إطارها:
1. الإصلاح المؤسسي: بناء نماذج مؤسسية جديدة، قادرة على تحقيق رسالة ورؤية التحول الزراعي المنشود، لمعالجة تشوهات واختلالات القطاع الزراعي المروي.
2. إعادة هيكلة نظم الإنتاج: باعتماد نظم زراعية مرنة من حيث التركيبة المحصولية وعلاقات الإنتاج، ومواءمة المحاصيل مع البيئة والخصائص المناخية والمائية لكل مشروع، وإدخال التقنيات الحديثة المتمثلة في البذور المحسّنة، ونظم الري الحديثة، والزراعة الدقيقة.
3. إصلاح نظم التمويل والتسويق: بربط المزارعين بالأسواق عبر سلاسل قيمة مدمجة، وإنشاء مصارف تنمية وصناديق تمويل زراعي مستدام عبر التمويل التدويري والتعاوني، وتفعيل التأمين الزراعي ضد المخاطر المناخية.
4. إعادة تأهيل وإصلاح البنى التحتية: بتأهيل شبكات الري، وتشييد الطرق الريفية والمستودعات الحديثة العمومية والمبردة، للحفاظ على جودة المدخلات والمخرجات.
5. بناء نظم الحوكمة والإدارة: بإعادة هيكلة المؤسسات الزراعية وفق مبادئ الشفافية والمساءلة، وتمكين اتحادات المنتجين والمزارعين كمؤسسات فاعلة.
6. الحفاظ على البيئة: بتعزيز الزراعة الإيكولوجية في المناطق المطرية، ومكافحة التصحر وتدهور التربة، ودعم استخدام الطاقة المتجددة في الري ومعالجة المياه.
7. إشراك المجتمعات المحلية: بتمكين المرأة والشباب في الإنتاج الزراعي، وتحويل صغار المزارعين من منتجين للغذاء فقط إلى فاعلين اقتصاديين.
ولتحقيق هذه الإصلاحات الرامية إلى معالجة الاختلالات والتشوهات التي تعوق تطوير القطاع الزراعي المروي، وعطفاً على فشل علاقات الإنتاج المتمثلة في أنظمة الحساب المشترك والحساب الفردي والزراعة التعاقدية في تطوير القطاع الزراعي المروي كرافعة أساسية للاقتصاد الوطني، ومن واقع التجارب الإقليمية والعالمية، فلقد أثبت نموذج الشركات المساهمة القابضة التمويلية، إلى جانب التعاونيات الزراعية، أنهما الخيار الأمثل لإحداث التحول الزراعي المستدام.
وفى هذه السياق، فإن الضرورة أصبحت ماسة لتحويل المشروعات الزراعية المروية القومية إلى شركات قابضة تمويلية، تدرج في سوق المال (سوق الخرطوم للأوراق المالية)، وتنشأ تحت مظلتها عديد الشركات التشغيلية التي تعنى بالإنتاج الزراعي النباتي والحيواني والتصنيع الغذائي والخدمات الزراعية واللوجستية والتسويقية ذات الصلة. وفي هذا النموذج يصبح المزارعون والعاملون شركاء مؤسسين للشركات القابضة، وتطرح بقية الأسهم للجمهور، لاستقطاب رؤوس الأموال اللازمة لتأسيس الشركات التشغيلية في كل مشروع مروي تحت مظلة شركته القابضة. ومن مزايا هذا النموذج: استقطاب رؤوس الأموال اللازمة لتأسيس الشركات التشغيلية عن طريق الاكتتاب العام (الطرح الأولي)، وتحرير القطاع من عبء التمويل الرسمي، وتعزيز الشفافية والمساءلة عبر البورصة (سوق المال) وبيئة العمل المؤسسي، وتأسيس شركات تشغيلية (زراعة، تصنيع غذائي، تخزين، نقل، تسويق)، تعالج انفصال الحلقات الإنتاجية، وتبني سلاسل قيمة قادرة على تحقيق النتائج المالية والاقتصادية والاجتماعية المرجوة، وتمكين المزارعين والعمال من أن يكونوا شركاء لا مجرد منفّذين؛ مما يعزز الانتماء والمسؤولية في تحقيق رسالة ورؤية المشروعات المروية كشركات مساهمة قابضة.
كما أنه ولإحداث التكامل المطلوب في تحقيق الأمن الغذائي، والمحافظة على المجتمعات الزراعية والعلاقة التاريخية للمزارعين بالأرض، وتعزيز العدالة في توزيع المداخيل، وتقوية شبكات الأمان الاجتماعي في الريف، فإن الضرورة تستوجب تنظيم المزارعين في جمعيات تعاونية، تضم في عضويتها مزارعي القرى المتجاورة جغرافياً، بحيث تمنح أراضي زراعية مجاورة لحرمات هذه القرى، يتم فيها تبني نظم إنتاج مختلطة (نباتي + حيواني + دواجن)، لتأمين الاكتفاء الذاتي، وخلق فوائض للتسويق الداخلي والخارجي.
ولضمان تحقيق النجاح المطلوب لنماذج الشركات القابضة والتعاونيات، فلا بدّ أولاً- من إجراء إصلاح تشريعي شامل، يسمح ببناء هذه النماذج المطلوبة لتحقيق التحول الزراعي المستدام. وثانياً- ضمان حقوق المزارعين والعاملين في ملكية الأسهم كمؤسسين، عبر حصص أسهم تضمن التوزيع العادل للأرباح. وثالثاً- بناء نظم حوكمة تحقق المساءلة والشفافية. ورابعاً- بناء أنظمة إدارية ومالية شفافة، ورقابة داخلية وخارجية. وخامساً- المشاركة في اتخاذ القرار. وسادساً- ربط نماذج الشركات والتعاونيات بأهداف التنمية المستدامة، لا سيما في القضاء على الجوع ومحاربة الفقر، والأمن الغذائي، والعمل اللائق، والشراكات. وسابعاً- الاستثمار في البنية التحتية والخدمات كالنقل والتخزين والتسويق والرقمنة الزراعية. وثامناً – إحداث التكامل المطلوب بين التعاونيات الزراعية والشركات القابضة. وأخيراً وليس آخراً العمل الدؤوب على معالجة التحديات التي ينبغي التحوط لها؛ مثل مقاومة التغيير من بعض النخب المستفيدة من الوضع القديم، وبناء الثقافة المؤسسية الداعمة للتغيير، والتحسين المستمر للبيئة الاقتصادية والسياسية المعززة لثقة المستثمرين.
شارك المقال