الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• أكبر تحدٍ إنساني يواجه دارفور هو أزمة النزوح المزمنة. مخيمات النازحين، التي يفترض أن تكون ملاذًا مؤقتاً، تحولت إلى مدن من الصفيح واليأس، مع غارات الأوباش وداعميهم. يعيش فيها جيل كامل لم يعرف غير خيمة ضيقة ووجبة غذائية غير مكتملة. هؤلاء لم يفقدوا منازلهم فحسب، بل فقدوا هويتهم المرتبطة بأرضهم وحِرَفهم وتقاليدهم. المرأة التي كانت تزرع الأرض في قراها، أصبحت تقف في طوابير طويلة تحت الشمس الحارقة لتأخذ كيساً من الدقيق لطعام أطفالها، إن وجد. الطفل الذي كان يحلم بأن يصبح معلماً أو طبيباًَ، أصبح يحلم بحفنة (أمباز). النزوح أصبح حالة مستمرة، حيث يُجبر الناس على الفرار مراراً وتكراراً مع كل موجة عنف جديدة، مما يخلق إحساساً بعدم الاستقرار يجتاح النفس الجماعية لأهل الإقليم.
الأمن الغذائي في دارفور هو مفهوم نظري بعيد المنال. القرى التي كانت سلال غذاء للسودان أصبحت تعتمد على المساعدات الدولية التي غالباً ما تكون غير منتظمة للتعقيدات والظروف الأمنية وصعوبة العمل الإنساني. سوء التغذية الحاد بين الأطفال يقوض الأساس الجسدي والعقلي لجيل كامل. طفل يعاني من سوء التغذية لا يستطيع التركيز في التعليم، ولا يقوى على اللعب، ولا ينمو ليصبح بالغاً قوياً قادراً على إعادة بناء مجتمعه. هذه هي الجريمة الصامتة للصراع.. تدمير المستقبل قبل أن يولد.
المستشفيات والمراكز الصحية في دارفور، إن وجدت، تعمل بأقل من طاقتها بكثير. نقص الأدوية، والمعدات الطبية، والكوادر المؤهلة بسبب العنف والنزوح، جعل من الأمراض البسيطة أحكاماً بالموت. امرأة تموت أثناء الولادة لعدم وجود قابلة ماهرة أو عيادة مجهزة. طفل يموت بسبب الإسهال لأن محلول الجفاف غير متوفر. مريض السكري أو الضغط محكوم عليه بالتدهور البطيء لأن أدويته المنقذة للحياة لم تصل في القافلة الإنسانية الأخيرة. الصراع لا يقتل بالرصاص، بل يقتل بهذا الحرمان المنظم من الجنجويد من الحق الأساسي في الصحة.
ماذا يعني أن يكون هناك جيل كامل محروم من التعليم؟ المدارس دمرت كثير منها، أو تحولت إلى ملاجئ للنازحين، أو أصبحت ثكنات للغاصبين. المعلمون هربوا أو نزحوا. الأطفال إما مشتتون في مخيمات النزوح أو هائمون على وجوههم، أو يعملون لمساعدة أسرهم على البقاء. حرمان المجتمع من التعليم هو ضربة استباقية لمستقبله، تضمن تدميراً أعمق وأطول أمداً من تدمير المباني. إنها عملية تجهيل منهجية وموروثة عند المليشيا لتخلق فراغاً ثقافياً وأخلاقياً يسهل استمرار دوامة العنف فيه.
أخطر التحديات هي تلك التي لا تُرى. إنها الصدمات النفسية العميقة التي يعانيها الناجون من العنف. أطفال شاهدوا ذويهم يُقتلون أمام أعينهم. نساء تعرضن للعنف الجنسي الممنهج كأداة حرب لتحطيم نسيج المجتمع. رجال عاجزون عن حماية أسرهم. هذه الصدمات الجماعية تورث عبر الأجيال، وتخلق دائرة من الخوف والكراهية والرغبة في الانتقام يصعب كسرها. برامج الدعم النفسي شبه معدومة في مواجهة هذه الجائحة الخفية من الألم.
على الرغم من كل هذا، فإن أنبل مظاهر الإنسانية تتجلى في دارفور. في امرأة تشارك جارتها رغيف الخبز الوحيد. في طبيب يتطوع ليعمل 24 ساعة في عيادة مهدمة. في معلم يعطي درساً تحت شجرة لأطفال لم يعرفوا مدرسة. التحدي الإنساني في دارفور هو اختبار للضمير العالمي. إنه يسألنا سؤالاً بسيطاً ومروعاً: إلى أي درجة نحن على استعداد للسماح بانهيار إنسانيتنا المشتركة؟ إن إنقاذ دارفور ليس مجرد تقديم مساعدات، بل هو إعادة الاعتبار لفكرة أن حياة كل إنسان فيها لها كرامة وقيمة.
شارك المقال
