

بقلم: محمد الأمين مصطفى
• أبارك لـ (آن) هذه المجموعة القصصية الرائعة والتي تجلت فيها روعة السرد القصصي وبراعة في الآداء الكتابي مع جماليات الذوق والحس الخيالي الرفيع .
وفي إعتقادي أن هذا المانشيت العريض الذي أوردته لم يأتِ من فراغ، وإنما من نتاج الممارسة الإبداعية المتواصلة والتي إستمرت لسنوات.. بالإضافة إلى الموهبة طبعاً، وهذه العوامل هي التي أسهمت وأفرزت للمشهد الثقافي والفكري مؤلفاتها المتعددة.. وأضيف على ذلك ما ذكره حسين دعسة الناقد والروائي الأردني في مقدمته لهذه المجموعة عندما قال: (هي آن الصافي في القصص، تنظر إلى جدوى موروث وتراث الإنسان).
إذا سلطنا الضوء على الحزمة القصصية الأولى التي تحمل عنوان (المشيمة)، وهي كما أوردنا في إفتتاحية الحديث تحمل ست قصص قصيرة، وطافت بنا آن عبرها في بحورٍ من الإساطير القديمة التي ترضخ وتدين للمشاعر الإنسانية والحب النقي والصافي، ومثلما فاض نهر النيل تلبيةً لخطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على عكس الأسطورة التي يعتقدها الناس، حيث غرق في سبيل ذلك أجمل بنات مصر، فقد لبى طائر الرامح نداء حب (أماني) بنت الوزير ذات الجمال والحكمة والعلم للفتى أدير، وفعل ما فعل ليلة زواجهما، وهذا ما ستقرؤونه في القصة .

وما يميز هذه (المشيمة) وقصصها الثمانية هي إنتقال السمات والمشاعر الإنسانية، فقد إنتقلت العاطفة والحب لتكون موضوع القصة التالية، قصة (مالو)، شقي الحال والأحوال.. الذي عاش وحيداً.. ومنعزلاً من الناس.. وفي طرف غابة.. وأعمى.. ولكن نهاية حبه لـ (هانا) إبنة الأعمى.. ذات الصوت الجميل عندما تغني.. ليست كنهاية قصة أسطورة الطائر الجارح، تلك النهاية التي عبرت عنها إفتراق الحجرين المنقوشين في أول القصة، وإجتماعهما في نهايتها .
لم تخرج (آن) من عالم الحب والفقد والطبيعة الخلابة والأصوات الساحرة عندما إنتقلت إلى قصة (عازف الناي الخفي)، فالغابة بطيورها وأشجارها وسحرها الإلهي البديع الذي ضم حب (مالو وهانا) في القصة السابقة، تشابه جزئياً العزلة التي ألمت بـ (كانو) بطل هذه القصة وهو مقعداً جوار الشجر والنهر، وليس له غير شقيقة تأتيه ساعات النهار لخدمته وصديق مجنون وعازف ناي خفي لا يراه، ولكن يسمع عزفه، فعلى الرغم من أن القصص الثلاثة منفصلة من حيث السرد والموضوع، مع إنتقال السمات والمشاعر الإنسانية، إلا أنني أحس بأن الرجل الخفي يعزف، و(هانا) في االقصة الثانية تغني بصوتها الشجي، و(أماني) بنت الوزير في القصة الأولى ترقص على هذه الأنغام .
يتواصل المد القصصي الغني بحقائق البشر على إختلاف طبائعهم وأوزانهم الإنسانية والإخلاقية مع أن جميعهم كانت بداياتهم من المشيمة، وهذه هي فلسفة الحياة التي بنت بها (آن) هياكل سردياتها القصصية، ففي قصتيها (مملكة واكو والنزهة) تظهر لنا خواص أخرى للبشر لم تتطرق إليها في القصص السابقة، وهي الخيانة والحسد في (مملكة واكو)، والأنانية المفرطة وطمع أهل المال في خيرات البسطاء في قصة (النزهة).. وقدمت لنا الكاتبة هذه الصفات في قوالب سردية مليئة بالتفاصيل والأحداث والشخصيات على الرغم من أنها قصص قصيرة.
نأتى إلى القصة التي سمت بها الكاتبة المجموعة، (٨).. وهي موضوعة في صرة الكتاب، قد تكون لها علاقة ما بالقصص التي سبقتها من حيث الترتيب.. خصوصاً وأنها خاتمة لعنوان (المشيمة).. وقد تكون فاتحة تستند عليها القصص القادمة.. السبب الذي جعلني أقول هذا هو موضوع القصة التي ألخصها في جملة إيمانية ملزمة لنا نحن المسلمين.. وهي (الإيمان بالقضاء والقدر) ونبذ الأساطير والخرافات، ودلت على ذلك في خاتمة القصة.. حيث دلت بعض المواقف المهمة في حياة (كنزا) وزوجته (ماري) بطلا القصة بأرقام غير الرقم (٨) الذي كانا سيعتقدان به طوال حياتهما .

إنتهت (المشيمة) وبدأت ساعة الصفر.. وهو العنوان الثاني لمجموعة تتكون من قصتين فقط.. (القطط السمان) و (النيمة).. وظني أن (آن) أرادات ترجمة واقعنا الحياتي في السودان بملامسة القضايا السياسية والإجتماعية الشائكة والمكررة والمملة، والتي صرنا نحن أصحابها نلوكها آناء الليل وأطراف النهار، فالبعض منا يتعترف بها وهو يعانيها، والبعض الآخر ينكرها وهو يعانيها أيضاً، ولكن لم يفتح علينا الله سبحانه أن نتفق لحلها، فكانت قصة (القطط السمان) تعبيراً حقيقياً عن آكلي المال العام ومعاناة أبنائهم مع المجتمع، وجاءت قصة (النيمة) مكملة لها، وتلخصت في تلك العبارة التي نقولها كلنا دون فرد، والتي وردت في الحوار: (البلد دي ما معروف ماشة وين)، قالها (رمزي) لـ (صلاح) في متكأ أصدقائه تحت النيمة، وجاء الرد فوراً برصاصة إخترقت صدر (صلاح)، ومات في الحال، وكان ذلك هو أول يوم للحرب، وكانت هي الإجابة لسؤالنا الذي إستمر لسنوات طوال.
الفصل الثالث الذي حمل إسم (الكنينة) جاء بقصة واحدة، هذه القصة مجزأة لستعة أجزاء، ومتصلة مع بعضها البعض، قد تكون قصة طويلة في نظر محبي القصص، وقد تكون رواية صغيرة في نظر عاشقي الروايات، وأنا مع هؤلاء، والحق أقول بأنني حزين للغاية، لأنني وبكل صراحة إستكثرت أن تكون هذه السردية البديعة ضمن مجموعة قصصية، لأنها حملت كافة المقومات السردية والإبداعية والجمالية التي تحملها الرواية الجيدة، حتى على مستوى التكنيك السردي تجدها متفردة، وأنا لم أقرأ مثل هذا التكنيك إلا في رواية واحدة، وهي رواية (أوفيدا سيهن) للصحفية والروائية (ناهد قرناص)، وقد تكون هناك روايات أخرى تحمل نفس هذه الخاصية ولكني لم أقرأها، وهي تقنية الرواة المتعددين، حيث يقوم عدد من أبطال القصة بسردها وكلٌّ من وجهة نظره.
وبالعودة إلى قصة (الكنينة)، هذه الشخصية الساحرة والعجيبة حقاً، وكما وصفتها (آن)، على لسان زوجة إبنها: (سيدة في نهاية الأربعينات من العمر، سمراء، فارعة الطول، ممتلئة الأرداف، فاحمة الشعر، واسعة العينين، مكتنزة الشفاه)، وكما جاء من صفاتها في القصة أنها شديدة الإعتناء بنفسها، مالها كثير وتدير أعمالها بنفسها، تراعي جيداً حفيداتها وأمهم وسائقها والعاملات معها، ولا تجامل في خصوصيتها وأجواء متعتها الجنسية على الرغم من تقدم سنها، وتزوجت خمسة مرات ويموت أزواجها، حتى شك جميع من حولها بانها من تقتلهم، وظني أن الكاتبة أرادت توسيع دائرة الإحاطة بكل تفاصيل الكنينة، لذلك جاءت قصتها مليئة بالتفاصيل والأحداث المتسارعة والمتصاعدة.
شارك القراءة