• في عالم تتصارع فيه الدول على النفوذ والمصالح، قيل إن السياسة هي فن الممكن. لكن ما لا يقال كثيراً، هو أن الاقتصاد هو فن إدارة المستحيل بالموارد المتاحة. هو معادلة قاسية لا تعرف المجاملة، حيث يُطلب من الدولة أن تلبي احتياجات شعبها المتزايدة في ظل موارد محدودة، وعقبات لا حصر لها. وفي السودان، يصبح هذا الفن أكثر تعقيداً، عندما يتشابك الاقتصاد مع السياسة، وتغلب العاطفة على الأرقام، وتطغى الأزمات على التخطيط.
الاقتصاد السوداني يعيش في حالة طوارئ دائمة. بلد غني بالموارد الطبيعية، من الذهب إلى الأراضي الزراعية، ومن الثروة الحيوانية إلى المياه، لكنه يعيش مفارقة مؤلمة: الفقر في قلب الغنى. السبب ليس في ندرة الموارد، بل في عجز السياسات الاقتصادية عن إدارتها بكفاءة وعدالة. فعلى مدار عقود، ظلت خطط التنمية حبراً على ورق، وذهبت الموارد الضخمة هباءً بفعل سوء التوزيع، الفساد، والتخبط في اتخاذ القرار.
منطق الاقتصاد بسيط في جوهره: موارد محدودة، واحتياجات غير محدودة. لذا، يتطلب الأمر ترتيب الأولويات، وتحديد من يستحق ماذا، وفي أي وقت، وبأي وسيلة. لكن في السودان، تغيب الرؤية الاقتصادية الواضحة، ويهيمن النهج السياسي على إدارة الاقتصاد، فتضيع فرص الاستثمار، وتتآكل قيمة العملة، وتتضخم الأسعار، بينما المواطن البسيط يدفع الثمن من قوته اليومي، وصحته، وتعليمه، ومستقبل أبنائه.
عندما انهار الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية، لم يكن السبب فقط المضاربات أو العقوبات أو شح الإنتاج، بل أيضاً غياب الإرادة الاقتصادية الجادة، التي تتخذ القرار بناءً على بيانات وتحليل، لا على اعتبارات سياسية آنية. وعندما تعثرت السياسات الزراعية، لم يكن العائق المطر أو الأرض، بل فقدان الرؤية التي توائم بين الزراعة والصناعة والتصدير والطلب المحلي.
نظريات الاقتصاد الكلي والجزئي تُجمع على أن الاستقرار السياسي، والانضباط المالي، والعدالة في التوزيع، والتخطيط طويل الأمد، هي مفاتيح النمو الحقيقي. لكن ما يحدث في السودان هو العكس تماماً: إنفاق عشوائي، وضرائب متزايدة دون مقابل خدمي، وتدهور في البنية التحتية، وانعدام للثقة بين المواطن والدولة. كل ذلك يجعل من الممكن الاقتصادي مهمة شاقة، إن لم تكن شبه مستحيلة.
غير أن الأمل لا يغيب تماماً. الاقتصاد السوداني، رغم هشاشته، لا يزال يملك القدرة على التعافي إن توفرت الإرادة الحقيقية لذلك. فالبلاد تملك من المقومات ما يجعلها من أكبر الاقتصادات في المنطقة: شمس لا تغيب، أراضٍ خصبة، شباب طموح، وموقع استراتيجي متميز. لكنها تحتاج إلى أن تُدار كعلم، لا كوسيلة للمناورة السياسية أو وسيلة للترضيات الاجتماعية.
الاقتصاد لا يرحم العواطف، ولا يعترف بالشعارات. إنه ميزان دقيق، يقيس النجاح بالأرقام، ويحاسب بالفقر إذا أُهملت قواعده. وفي السودان، حان الوقت ليُفصل الاقتصاد عن المزاج السياسي، ويُدار بالعقل لا بالهوى، وبالبيانات لا بالانطباعات، وبالشراكة لا بالإقصاء. حينها فقط، يصبح الممكن واقعاً، ويتحول المستحيل إلى فرصة.