م. معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• في أدبنا السوداني ظلّت الكلمات سلاحاً أصدق من البنادق…!
وبقي الشعر صوت الضمير الجمعي حين تعلو أصوات الحرب.
ولعل الراحل المقيم الشاعر محمد الحسن سالم حميد ‘رحمه الله’ كان واحداً من أولئك الذين سخّروا الكلمة ليزرعوا في وجدان الناس شجرة سلام وليذكّروا الجميع بأن الحرب لا تورث غير الخراب وأن الأرض لا تُخضر إلا بالمحبة والوئام.
يقول حميد الإنسان في إحدى قصائده الخالدة:
يابا الحرب مي فيها خير
أيي الحرب مي فيها خير
ثم إن في خيراً في الحرب
إنك عصي ولا يوق
قدر ماكا الهدِي وطيّب قلب
أسمع كلامي دا يا تلب
أختااا الحرب…!
درب السلاااام وإن كان بعيد للحول قِرِب
وما الحرب آخرتا غير نخوور
على خيرنا تنكالب أمم
طول ما بتنكافت طيور
وااا بختها الحِدِي والصقور
حظ المرافعين والرَخَم
أرخ الجناح فوق الجراح
أرضااااا سلااااح
هذه الأبيات ليست مجرد شعر بل وصية أطلقها شاعر الشعب من قلب المعاناة محاولاً أن يفتح نوافذ الأمل في زمنٍ ضاقت فيه الصدور بالحروب والانقسامات.
حميد هنا يرفع راية الوعي يصرخ بملء صوته: «الحرب مي فيها خير».
يذكّرنا بأن الدماء لا تثمر غير الجراح وأن الخراب لا يعقبه إلا الفقر والجوع وتكالب الأمم على خيراتنا.
إن الحرب «يا صاحبي» ليست سوى موت ودمار تشرد نزوحاً وألماً وتخلف مرضاً وفقداناً للهوية والذكريات.
الحرب تُطفئ مصابيح البيوت وتترك الأزقة موحشة كأنها مقابر صامتة.
هي قافلة من الحزن لا تتوقف تحمل أطفالاً فقدوا مدارسهم وأمهاتٍ يخبئن دموعهن في أكمام ثيابهن وآباءً تاهت أحلامهم في طرقات اللجوء.
هي رائحة الخبز الغائب من الأفران وصرير أبواب المستشفيات المكتظة بالجرحى والمرضى وصوت الأذان يعلو فوق الخراب باكياً لا مبشّراً.
هي طوابير النزوح التي تسير إلى المجهول حاملة فوق ظهورها ما تبقى من حياة وصوراً قديمة لبيوت غادرتها دون وداع.
الحرب تسلب من الإنسان ملامحه فتصبح القرى بلا أسماء والوجوه بلا ابتسامة والقلوب بلا ذاكرة إلا ذاكرة الفقد.
وفي صور شعرية بديعة يرسم حميد التصارع بين الطيور: حين تتناحر تفقد جمال تحليقها وتغدو فريسة للحِدي والصقور بل وحتى المرفعين والرَّخم يجدوا نصيبهم من جيفة طيور المتقاتلة.
نعم صدقت يا حميد إن الخلاف يبدّد الروح ويجعل حتى الأضعف ينال منّا بينما الحُبّ والوَحدة هما الجناحان اللذان يحفظاننا ويُحلّقان بنا عالياً.
فالحياة الكريمة لا تكون في التناحر بل في الانتصار للأرض وللإنسان.
وكأنّ حميد ‘له الرحمة’ قد تنبأ بحالنا اليوم مع هذة الحرب والموت الزؤوم.
كأنه كان يقرأ صفحات الغد بمِدَاد القلب ليحذرنا من المصير الذي نعيشه الآن.
رحل حميد وبقي صوته يجلجل في ضمير السودان: «أرخ الجناح فوق الجراح… أرضا سلاح».
دعوة صافية صادقة لأن يطوي السودانيون صفحة الدماء وأن يبنوا وطنهم بالوحدة والتسامح.
ليت شمس السلام تُشرق على أرض النيلين من جديد
ولتزهر الحقول بالقمح والذرة والورد بدل الدمار.
ولتعود الضحكات تملأ بيوت الخرطوم ومدني والفاشر والدمازين.
ليت الطيور تحلّق في سماواتنا آمنة وليت القلوب السودانية تلتقي كما تلتقي الأنهار في مجراها
فيصبح السودان وطناً يحتضن أبناءه جميعاً بالحُبّ لا بالحرب وبالبناء لا بالهدم.
وليت القادم لنا أجمل كما حلم به حميد سلاماً يعم الأرض والقلوب.
آمييين
محبتي والسلام،،،
شارك المقال
