الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• أشياء غريبة تحدث تشعرني بعدم الانتماء، فبينما كنت جالساً في زاويتي المفضلة بالمنزل، تلك الزاوية التي لم أبرحها منذ ستة أشهر. الضوء الأزرق البارد من الشاشة العملاقة يغسل وجهي بينما أتابع مباراة في (البريمرليج) بين تشيلسي وليفربول.
وانفتح العالم أمامي فجأةً.. صفارات الجمهور، رائحة العشب الاصطناعي، حتى لمعان أضواء الملعب على وجوه اللاعبين. كل شيء كان مثالياً، مفرطاً في الدقة، المدرجات خاوية إلا من الروبوتات الجماهيرية التي تصفق وفقاً لخوارزميات (التشجيع المثالي). اللاعبون أنفسهم لم يكونوا حاضرين جسدياً، بل ظهروا كصور ثلاثية الأبعاد تُحاكي كل حركة بدقة، بينما أجسادهم الحقيقية مستلقية في غرف التحفيز العصبي في منازلهم الفاخرة.
التعليق الصوتي يأتيني مُخصصاً حسب مزاجي: (انظر يا سيد الناجي، هذا الهدف سيزيد من معدل دوبامينك بنسبة ٤٥٪).
ابتسمت. لم أعد بحاجة إلى الصراخ أو البكاء كما كان يفعل أبي عندما يحكي عن كرة القدم في تسعينيات القرن. المشاعر أصبحت مُدارة رقمياً، مثل تطبيق يُحدِّث نفسه تلقائياً.
في عامنا هذا، لم يعد (المنزل) مجرد مكانٍ للإقامة. لقد أصبح كائناً حياً يراقبك، يفهمك، ويُسيطر عليك بلطف. الجدران تُغيِّر ألوانها حسب حاجتك النفسية، والنوافذ تُقلِّد أي منظر تريده (مع أن أحداً لم يعد يفتحها فعلياً). حتى الهواء مُبرمج ليحمل عبق رائحة المطر إن أردت، أو رائحة خبز جدتك لو حننت إلى الماضي.
الأمر الأكثر غرابة؟ لا أحد يشتكي. الجميع راضون. لماذا يغادرون منازلهم بينما العالم الافتراضي يمنحهم كلَّ شيء؟ العمل، التعليم، العلاقات الاجتماعية، حتى السفر.. كلها متاحة بنقرة واحدة. صديقي (ياسر) لم يلتقِ بزوجته منذ عامين، لكنهما يعيشان قصة حب مثالية في “الميتافيرس”. وتقول زوجته: (الجسد أصبح عائقاً أمام الحب الحقيقي).
لكن هناك مفارقات غريبة.. اليوم الطبيب الذكي يُشخِّص أمراضك بدقة ١٠٠٪، لكن لم يعد هناك عناق من أمك عندما تكون مريضاً.
الروبوتات تُعلِّم الأطفال الرياضيات ببراعة، لكنهم لا يعرفون كيف يخوضون شجاراً طفولياً في الجوار.
يمكنك حضور حفل موسيقي لأي فنان ميت منذ قرون، لكنك لن تشعر بالدفء البشري في الزحام.
أخطر ما في الأمر؟ لقد توقفنا عن ملاحظة أننا فقدنا شيئاً. السعادة أصبحت (بيانات) تُقاس بعدد النبضات في جهازك العصبي، والمشاعر (خوارزمية) تُحسب بنسب التوافق الكيميائي.
ثم مرة أخرى، سمعت صوت المعلق الافتراضي يهمس في أذني: (انتبه! معدل دوبامينك بدأ بالانخفاض. هل تريد جرعة سعادة إضافية؟).
نحن لم نستيقظ فجأة في هذا العالم. لقد زحفنا إليه، خطوة (ذكية) واحدة في كل مرة.
في النهاية، بينما كنت أشاهد اللحظات الأخيرة من المباراة، ظهر إعلان على الشاشة: (اشترك الآن في باقة المشاعر الكاملة.. احصل على فرحة الفوز، وحزن الخسارة، وحتى قلق الهدف الضائع.. كل ذلك بسعر مخفض ٩٩.٩٩ عملة رقمية فقط!).
الأغرب أنني كدت أضغط على (اشتراك).
أغلقت الشاشة. فجأة، تذكرت ردود أبي عندما أجادله في عدم جدوى خطط لعب فريقه: (كرة القدم حياة، لا مجرد بيانات).
إلا أنني لم أستطع السيطرة على سؤال خطر لي: هل كنَّا سعداء أكثر حين كانت الحياة أقل كمالاً؟
ربما في هذا العام، أصبح كلُّ شيء (أفضل)، لكننا فقدنا أن نكون بشراً إلى الأبد.

التاريخ: ١ يناير ٢٠٥٠
(لكن اقرأه اليوم، قبل أن يصبح حقيقة).

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *