أيام في حضرة وردي (5)

25
wardi 07
Picture of بقلم: د. أنس العاقب

بقلم: د. أنس العاقب

  اليوم الثالث مايو 1971

• مرت مياه كثيرة تحت جسر الأحداث فى السودان عموما خلال العقد بين عامى 1961 و1971 فقد شهدت تلك السنوات حراكا سياسيا وثقافيا وإجتماعيا شمل كل أطياف المجتمع السودانى من كسلا إلى الجنينينه ومن حلفا إلى نيمولى بكل خطوطها التى كانت تتقاطع وتمر عبر الخرطوم عاصمة سودان المليون ميل مربع الذى كان .

وعلى الرغم من أن حكم عسكر إنقلاب 17 نوفمبر 1958 إجتهد ونجح فى أعوام قليلة فى إنفاذ خطة تنمية  ناجحة فى مجالات الزراعة والصناعة والتعليم والخدمات والعمل الدؤوب لتأسيس البنيات التحتية التى أثمرت رصف الطرق البرية و تمدد السكة الحديد  وإنشاء عدد من المطارات وغيرها من المنجزات الحيوية ولكن وأد الديموقراطبية وكبت الحريات ومطاردة المواطنين الشرفاء واعتقال قادة العمل السياسى كانت هى أيضا السمة الأساس لنظام نوفمبر1958 حتى وإن بدا مستأنسا لكنه لم يأنف حتى من إعتقال الفنان محمد وردى الذى إنضم للمظاهرات التى انتظمت الخرطوم محتجة على أتفاقية مياه النيل  التى عقدها السودان مع مصر  عام 1959 فى القاهره  وما دعا مواطنو النوبة لمعارضة قرار تهجير سكان المنطقة التى ستغمرها  بحيرة السد العالى المزمع إقامته جنوب  مدينة أسوان نتيجة  للإتفاقية تلك .. ومن الغرائب أن وردى كان من بين الكثيرين االذين أيدوا إنقلاب جنرالات نوفمبر1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود وقدم وردى نشيده الشهير الذى كتبه لهذه المناسبة الشاعر إسماعيل حسن عراب وردى وصديقه الحميم تقول كلمات النشيد التى ظنت  أن الإنقلاب سيحرر السودانيين من قبضة الطائفية الدينية وأسواق النخاسة الحزبية والفساد وكلها التى تردت فيها الحياة السياسية وقتذاك… غنى وردي :

فى 17 بعثت ثـوره ثـورتـنا السلميه

جيشنا الباسل هب وعلاَّ راية الجمهوريه

فى 17 هب الشعب طرد جلادو

فى 17 راح الظلم الله لا عادو

لا ساده لا رعاع   لاضماير تتباع ….إلخ 

ولا تمر أعوام قليلة وتفاقمت فيها الأوضاع بين سياست العسف وكبت الحريات والإعتقالات وبين تردى الوضع العسكرى فى المديريات الجنوبيه وتحوله إلى حرب إستنزاف أهليه  فكان أن تفجرت ثورة 21 اكتوبر عام 1964 التى  إسقاطت نظام عبود فقد شهدت معظم المدن السودانية فى المديريات الشمالية مظاهرات عارمة وتبنت بما عرف باستخدام سلاح العصيان المدنى السلمى  الذى شل الحياة وأرغم الجنرالات على التنحى وتسليم مقاليد الحكم لحكومة رأسها أستاذ قادم من خلف الصفوف إسمه سر الختم الخليفه …

بينما كانت والثورة مشتعلة فى ايامها الأولى زاد أوارها بث نشيد (أصبح الصبح) الذى كتب كلماته الشاعر محمد الفيتورى ولحنه وأداه محمد وردى  وظلت تردده الجماهير وكان لى شرف حفظه وترديده فى مدينة كسلا … كانت كلمات النشيد فى الأصل تعبر عن الثورة الإفريقية والتنادى بشعاراتها وهتافاتها والأنتصار بها لأجل الحرية والديموقراطيه والتقدم يقول النشيد :

أصبح الصبح  فلا السجن ولا السجان باقى

وإذا الفجر جناحان يرفان عليك 

وإذا الحزن الذى كحل هاتيك االمآقى

والذى شد وثاقـا لوثـاقِ 

والذى بعثرنا فى كل وادى

فرحة نابعة من كل قلب يا بلادى …

بنشيد «اصبح الصبح» رسخ مكانة وردى فنانا وصوتا متقدما ينادى للثورة والتغيير لأجل الحرية والديموقراطية وأتحف الحراك الجماهيرى عام 1965 فى ذكرى مرور عام على الثوره  بالأكتوبريات الشهيره التى صاغها شعراء من جيل أكتوبر 64 فى مقدتهم الشاعر صلاح أحمد إيراهيم رحمه الله والشاعر محمد المكى إبراهيم .

رسخت أقدام وردى فى الساحة الفنية وزاحم كوكبة العمالقة أحمدالمصطفى/عثمان حسين حسن عطيه/ عبدالعزيز محمد داوود/ إبراهيم عوض/عثمان الشفيع/ سيد خليفه/ وغيرهم ممن أتيحت له فرصة الظهور فى خضم الحراك الفنى الذى إنتعش فى أثناء حكم 17 نوفمبر العسكرى وذلك بإنشاء المسرح القومى وتحديث إذاعة أمدرمان وإفتتاح محطة التلفزيون السودانى عام 1962 وهو ما زاد من دائرة المستمعين والمشاهدين بالإضافة إلى ظهور عدد من الكتاب والنقاد فى الصحف ويعتبر وردى من أكثر الذين إستفادوا من هذا الزخم الإعلامى الضخم فى سنوات الستينات قدم فيها أعمالا غنائية أكدت رسوخ أقدامه وموهبيه الفذة فى التلحين ففى سنوات قليلة قدم وردى لجمهور المستمعين أغنيات: المستحيل، خاف من الله، ذات الشامة، مافى داعى، من غير ميعاد، الحبيب االعائد، الطير المهاجر والود ..

وغيرها كثير من الأغنيات الخفيفة الراقصة: بينى وبينك والأيام، صدفة، عذبنى، ما بنساك، ماتخجلى، هدية، حرمت الحب والريدة، يا ناسينا وبنحب من بلدنا ……وغيرها. 

كانت العاصمة هى مركز الحراك الغنائى والزخم الجماهيرى وهى غاية ما يحلم به فنان من الأقاليم ينتقل إليها ثم يجاز صوته فى الإذاعة وتسجل له أغنية أو أغنيتان وإذا واتاه الحظ تطلب إحدى أغنياته فى برنامج ما يطلبه المستمعون ومن ثم ينطلق نجمه بين عشية وضحاها وقد سبقنا من كسلا أخونا الفنان إبراهيم حسين الذى كان بلا منازع فنانها  الأول وبعد مشاركته فى مهرجان منافسات المديريات التسع من على خشبة المسرح القومى عام 1962 وجد ترحيبا عاصميا دفعه ليجرب حظه فى الإذاعة وكللت مساعيه بالنجاح فصار أحد رموز الغناء فى العاصمة ثم فى السودان وخارج السودان .

ولكن وبرغم أننى مارست الغناء العام فى مناسبات الأعراس إلا أننى كنت ميالا للغناء فى «القعدات» تلك التى تجمع دائما علية القوم من كل أطياف المجتمع من موظفين كبار/ أطباء/ تجار/ مثقفين/ ضباط جيش وشرطه وسجون/أساتذة جامعات / وسياسيين … وهذا العالم هو الذى سعى حثيثا ونجح فى أن يتم نقلى إلى الخرطوم محاسبا فى وزارة الماليه عام1966 وظللت أتنقل فى «قعدات» العاصمة  ومجالس أنسها التي  كان قد تسيدها الفنان عبد الكريم الكابلى ملك القعدات ومجالس الأنس منذ مطلع الخمسينات ثم تخلى عنها طوعا بعدما اندمج فى الحراك الغنائى العام وأصاب نجاحا كبيرا وكذلك أتاح لى (أمير القعدات )الراحل زيدان إبراهيم  أن أستأثر بالمجال بعد أن ظفر أخيرا بموقع فى خارطة الغناء وحتى منتصف عام 1969 لم أكن قد إلتقيت بالأستاذ وردى شخصيا حتى بعد أن أجيز صوتى عام 1968 بتشجيع من بعض الأصدقاء بحجة أننى مؤهل للغناء فى الإذاعة كغيرى ممن إلتحقوا بالوسط الفنى ….

ولكن فى أمسية رائقة  فى يوم إستثنائى كنت فيه نجم قعدة أقامها لي خصيصا الأخ خضر محمد أحمد ( المليونير خضر الشريف) سكرتير وزير الخارجية ( أظنه كان الشيخ على عبدالرحمن رحمه الله) وكان ذلك قبل عدة شهور من إنقلاب مايو1969 … دعى للقعدة نفر قليل من معارف وأصدقاء المضيف  المقربين فى أحد (بيوت السكك الحديد فى وسط الخرطوم وقبل أن أبدأ الغناء أطل علينا وردى بقامته المديدة وكان قادما من مشاهدة مباراة بين الهلال وفريق أوروبى ( وأظنه فريق سويدى) فى الحقيقة لم يخفنى  حضوره غير المتوقع أصلا ولكنى إنزعجت وخشيت أن ينصرف عنى الإهتمام ويتجه إليه  بحكم نجوميته والمهابة التى يتمتع بها ستفرض له وجودا متميزا دائما  ولكن لما علم وردى بالأمر جلس واستمع وكنت قد قررت أن أغنى عددا من أغنياتى دفعة واحدة تحسبا لما قد يحدث لو بدأ وردى بفاصل غنائى طويل 0مثلما حدث لي من قبل في مناسبة شبيهه  إقتحم فيها كبير الجلسه الأسريه الخاصه  ولم يدع لها إستلم (عودي) وغنى فيها ذلك الفنان الكبير 17 اغنيه  وولكن وردي جلس واستمع لي وكنت قد إكتفيت بغناء ثلاث أغنيات باللغة العربية الفصحى وجدت القبول ثم قام واحد من (المتشبرين )وطلب من وردى أن يبدى رأيه فى مستواى فرد بدون تردد بالحرف ( والله مش بطال … يجى منو) طبعا شكرت الأستاذ وردى وفى داخلى كان يعتمل عدم رضى فكيف يقول وردى «مش بطال» والجرائد تكتب عن الواعد الجديد القادم من كسلا وتهلل له وتبشر له بمستقبل باهر ويأتى وردى ليقول ببساطه ( مش بطال) وبعد فترة حكيت ماحدث لصديقي الراحل على ميرغنى فقال لى ( ياخى بختك وردى مافى زول بيعجبو فى الغنا حتى عند الكبار … مش بطال معناها وردى عجبو غناك وأجازك بدون تردد ) ومن يومها تأكد لى أن وردى شخصية من نوع مختلف .. مفرد …. واضح .. وصريح  وأمين .. وشجاع .. 

وتمر الأيام  والعسكر يفعلونها ثانية دبابات فى الكبارى والحيشان الثلاثه (الإذاعه والمسرح والتلفزيون) ومارشات عسكرية ثم أطل العقيد جعفر محمد نميرى يعلن للشعب السودانى البيان الأول وسقوط الديموقراطية الثانية وقيام سلطة جمعت بين القوميين العرب والشيوعيين ( وأهو كلو يسار في يسار)..

وجد إنقلاب مايو تأييدا جماهيريا كاسحا وسط طبقات الشعب السودانى وكان  للتنظيمات الجماهيرية اليسارية الدور الكبير فى تحريك الجماهير بقيام المظاهرة المليونية الكبرى فى ميدان عبد المنعم  الذى غصت به الكتل البشرية إحتفلا وتأييدا بمرور أسبوع من عمر إنقلاب مايو (ثورة مايو) … وكان وردى من أكثر الفنانين حماسا للإنقلاب اليسارى والداعى للخروج فى تلك المظاهرة ولاأنسى اننا (نحن أعضاء إتحاد الفنانين والموسيقيين) قد شاركنا فى تلك المسيرة سيرا على الأقدام من أم درمان حتى ميدان عبد المنعم فى جنوب الخرطوم كنا نهتف بحياة ثوار الإنقلاب ونضال الشعب السودانى وأحيانا كنا نردد النشيد الذى لحنه الفنان الكبير شرحبيل أحمد لثورة مايو: 

قدم الخير عليك يا بلادنا ***فجر الثوره دا عيد أعيادنا ) 

الذى كشفت فيه فى مقالاتى  الشهيرة عام 1974 حول السرقات الفنية أن مطلع النشيد مأخوذ من لحن أغنية النجاح الشهيرة التى غناها عبد الحليم حافظ فى فيلم  «يوم من عمرى «لحن الموسيقار منير مراد ويقول مطلعها :

( وحياة قلبى وأفراحو*** وهناه فى مساه وصباحو)

 وكان أيضا وردى من بين الذين إتهمتهم بالسرقة الفنيه وما دريت أن ابواب جهنم قد أنفتحت فى مواجهتى دفاعا عن وردى …. المهم إنخرط وردى فى السياسة معلنا تأييده الكامل للإنقلاب ولم ينف شائعة إنضمامه للحزب الشيوعى وعلاقته بسكرتيره العام المرحوم عبد الخالق محجوب وكان أن كونت لجنة نصوص وألحان جديدة من ثلاثة أعضاء هم الشاعر الراحل على عبد القيوم ومحمد وردى ومحمد الأمين فأثمرت اللجنه نشيد « نحن رفاق الشهداء» الذى لم يجد رواجا بينما ذاع النشيد الذى كتبه الشاعر محجوب شريف وشاركه بالغناء دويتو الفنان محمد ميرغنى: 

يا فـارسنا وحارسنا يا بيتـنـا ومدارسنـا)  

( كنا زمن نفتش ليك وجيتنا الليله كايسنا) ….. إلى أن يقول

(وبيك يا مايو يا سيف الفدا المسلول)

( نشق اعدانا عرض وطول)

ولكن ثوار مايو (مجلس قيادة الثوره) إختلفوا مع الحزب الشيوعى بما أسفر عن إقالة ثلاثة من أعضاء المجلس فى نوفمبر 1970 المؤيدين للحزب الشيوعي فوجد وردى نفسه فكريا وموالاة يقف مع جناح عبد الخالق محجوب المعادى لسياسات مجلس قيادة الثورة بقيادة الجنرال النميرى رئيس المجلس والمنشقين عن الحزب الشيوعى ..

ولما كنت لا أنكر إنتمائى للحزب الشيوعى عام 1965 لفترة قصيرة فى مدينة القضارف لكن ظلت صلتى بقيادات الحزب حميمة  فقد كانوا يرون فى شخصى فقط (ولد) موهوب فى الغناء ومع غشامة سياسيه وعدم إهتمامه بالإنخراط فى الكوادر الحزبيه ترك الحزب ولم يتلوث مع الأحزاب.الرجعية ومن هذا الواقع الإنتمائى بلا إلتزام توطدت علاقتى بوردى الذى يرى فى أفكارى ما يتلاءم معه فنيا وسياسيا بل لم تتغير فكرته عنى إلى آخر يوم زرته فيه فى أمسية السبت 19 نوفمبر قبل وفاته رحمه الله بثلاثة أشهر بالتمام والكمال فى يوم السبت 18 فبراير من عام 2012 .

إنضم وردى طالبا بالدفعة الثانية عام  1970 فى معهد الموسيقى والمسرح والفنون الشعبية وكنت قد سبقته طالبا بالدفعة الأولى وهو بالدفعه التى تميزت بنجوم  زواهر أذكر منهم محمد وردى وبشير عباس وحمد الريح والطيب عبد الله وعبدالقادر سالم عبدالعظيم عبدالله يوسف (حركه) وزيدان إبراهيم  وزكي عبد الكريم ومن بين كل هؤلاء من لم يستمر فى الدراسة سوى الطالب عبد القادر سالم واما وردى فقد كان طالبا منتظما ومتفوقا نافسنى فى رئاسة إتحاد الطلاب وفاز وانتقل متفوقا للصف الثانى وأظهر إمكانيات صوتية أوبرالية تينورية عالية تماما كالطالب المتميز عثمان مصطفى بدفعتنا الأولى الذى  تلقى تدريبا صوتيا مكثفا قبل إلتحاقه بالمعهد على يد الموسيقارالإيطالى «إيزو مايستريـللـى». 

لم ينقطع وردى عن الدراسة بسبب عدم الرغبة أوبالرسوب الأكاديمى كما حدث لكثيرين غيره ظلوا يدعون بأن للدوله يد فى فصلهم وأما وردى فقد كان أول من أقتيد حبيسا فى سجن كوبر  ومعه الفنان محمد الأمين والموسيقار جمعه جابر وعدد من الموسيقيين إثر تاييدهم إنقلاب  19 يوليو1971 الذى قاده  الرائد هاشم العطا رحمه الله وقد كنت من بين موقعي برقية التأييد التي بعث بها الفنانون الديمراطيون غير أن سلطات الأمن (ومنهم زملاء دراسه في بورتسودان الثانويه) إكتف بفصلي من معهد الموسيقى وحظريى من التعامل في الحيشان الثلاثه (الإذاعه والتلفزيون والمسرح ) .  

ولكن قبل إنقلاب هاشم العطا وتحديدا فى أبريل 1971 أقرر إتحاد الطلبه برئاسة الطالب وردى القيام بجولة فنية تضم كل المطربين والعازفين من طلاب المعهد وكونت لذلك فرقتين إتجهت الأولى إلى الجزيره وكسلا وأما فرقتنا فقد إتجهت مباشرة لكردفان لتقدم حفلاتها فى الأبيض والدلنج وكانت مكونة من الطلبة المطربين محمد وردى وعثمان مصطفى ومحمد ميرغنى وعبد القادر سالم وشخصى انا أنس العاقب  بالإضافة إلى عدد من الطلبة العازفين : على ميرغنى والطيب خليفه ومحمد الحسن محمد أحمد وسالم الطيب وأمين السيد وغيرهم من الزملاء   وممن لا تحضرنى أسماؤهم الآن..

ما من شك أن صحبة السفر تكشف معادن الرجال وأتذكر جيدا كرم وأريحية وردى فى كثير من مهمات ومتطلبات فرقتنا وهو  يسافر مع طلاب ليس لديهم من معين سوى الإعانة الشهرية التى بدأت بسبعة جنيها وتوقفت بعد سنوات عند 17 جنيها فقط ونحن على أعتاب التخرج عام 1974 .

كان وردى قبل الإحتفال بالعيد الثاني (لثورة مايو) عام 1971قد تقدم بتسجيل نشيد ( حنتقدم ) شاركت فيه ككورس ضم عددا من المطربين ورفض النشيد بأمر مباشر من وزير الداخلية آنذاك إثر الخلاف  بين قادة الإنقلاب  في نوفمبر 1970الذي أدي إلى فصل ثلاثة من اعضاء مجلس القياده وكان وردي محسوبا على المفصولين  وكنت بدورى قد سجلت نشيد «موسم الحصاد» للشاعر محمود خليل قبل عيد (الثوره) بقليل وكان وردى حانقا على مايو ولم يكن يخفى ذلك ففى مرة قررنا أن نسمر مع بعضنا فى ليلة خالية من برنامج فى مدينة الأبيض وظللنا نغنى طربا ومرحا وهزلا ولفت نظرنا وجود شاب صغير السن بيننا يتابع الغناء وهويعزف على آلة الكلارينيت يأداء متمكن مدهش وفى لحظة نشوة الطرب ونحن وقوف متحلقين فى قمة بهجتنا نتبادل مقاطع أغنية حلمنتيشيه كانت متداوله بين الشباب فى تلك الأيام  وكان الإرتجال هو الذى يتبارى فيه المشاركون بعد ترديد وتكرار المطلع « أم باري دي أم باري دي يا اكواني « كلنا  بفعل النعنشه إرتجلنا كلام خارم بارم ولكن وردي إرتجل كلاما حرف بعض الكلمات فتحولت هجاء حادا ولاذعا لمايو والنميري ذاتو وطبعا لم نعرها إهتماما ولكن ذلك الصبى الفنان جدا وقف مندهشا لما يسمع وفجأة ولى هاربا تشيعه ضحكاتنا العابثه … ذلكم كان هو المرحوم (عبد الله أميقو) الذى تمر به الأيام طالبا بالمعهد ثم أستاذا فيه … وبعد أيام سافرنا إلى الدلنج وغنينا فى مسرح السينما ثم كان أن إستضافنا الأستاذ الشاعر محمد يوسف موسى وكيل بريد مدينة الدلنج ثم عدنا قافلين إلى الأبيض لنشارك فى زواج زميلنا  الطالب عبد القادر سالم …

تلك كانت أيام لا تنسى جمعت زملاء دراسة بالموهبة والإخاء وكان لى شرف أن أكون قريبا جدا من الزميل الطالب المتميز الفنان الكبير محمد وردى الذى حرك بوجوده  طاقات إتحاد الطلبه وساهم كثيرا فى الدفع بالمعهد إلى مصاف المؤسسات التعليمية المتقدمة وكان من أوائل المدافعين عن المعهد فى كل المحافل  ولم ألتق به فى المعهد  بعد إدخاله السجن فى يوليو عام  1971 أثناء عمليات إحباط إنقلاب الرائد هاشم العطا رحمه الله كما حرم  من مواصلة الدراسة بعد إطلاق سراحه عام 1973 ولسوف تمتد أيادى وردى على المعهد بعد ان أختير عضوا فى مجلس إدارة المعهد عام 1985   ولم تنقطع صلته به إلا بعد تحويل المعهد إلى  كلية وضمه  لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا . 

كان يطيب لى التحادث مع وردى متى ما أتيحت لى الفرصة  وكان وردى يستطيب ذلك معى لأننى كنت أتفق معه بلا مواربة فى الكثير من الآراء والأفكار والقناعات الفنية والسياسية والثقافية وغيرها من الأحكام والإنتقادات الت نتفق عليها جهرا ولا تغضب أحدا وتلك التي نتبادلها بيننا  فقط وهذا لا ينفى أيضا وجود  بعض خلافات بيننا فى الرأى والمواقف أدت إلى موجهات لم ترق مطلقا لصدام أو قطيعة بل ظل وردى هو المبادر بتطييب خاطرى والسؤال عن أحوالى بينما كنت أحيانا أحس  خجلا  من كلماتى المشاغبة اللسنة رحم الله محمد وردى  فقد كان  وده وتقديره لى يتسامى فوق مشاغباتى ما زادنى له حبا وتقديرا رحمه الله وأحسن إليه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *