أهمية استلهام تجربة النموذج الكوري في الإدارة بالسودان

12
فكري كباشي الأمين

أ. د. فكري كباشي الأمين

خبير اقتصادي

• خرجت كوريا الجنوبية منهارة اقتصاديًا وسياسيًا من الحرب الأهلية الكورية، التي وقعت ما بين 1950 – 1953م، وحققت ما يسمى بـ (المعجزة الاقتصادية). فالتقدم السريع قد حظي باهتمام الاقتصاديين والإداريين داخل  كوريا الجنوبية وخارجها، لمعرفة الدوافع والأسباب وراء نجاح الشركات الكورية- التي تدار من خلال عقيدة إدارية وقيم ثقافية تأثرت بأساليب ونظم العمل اليابانية، وبالنظام الإداري الأمريكي.

تشترك كوريا الجنوبية واليابان في الكثير من الخصائص الثقافية، التي هي وليدة النفوذ الصيني في كلا  البلدين في الماضي. فالكوريون واليابانيون ينظرون لشؤونهم الداخلية وعلاقاتهم بالعالم الخارجي بمنظور الفلسفة الصينية، وبصفة خاصة الكنفوشسية. إضافة إلى ذلك، تطبيق النظام الإداري الياباني بكوريا خلال فترة الاحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية، والتي امتدت من العام 1910 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وخلال تلك الفترة تركت الإدارة اليابانية بصماتها الواضحة على الإدارة الكورية. وبالرغم من تشابه الأخيرة مع نظام الإدارة اليابانية، إلا أنه توجد اختلافات بين النظامين، وسيتم التعرض إلى أهمّ خصائص الإدارة الكورية، وتتمثل فيما يلي:

1. سيطرة الأخلاق الكنفوشيسية في العمل:

فإن العلاقة بين الرئيس والمرؤوس طبقًا للثقافة الكنفوشيسية تحكمها مبادئ العدالة والأخلاق، وأن مثل هذه المبادئ تؤثر على السلوك التنظيمي والإداري. كما تؤثر على الاتصالات والعلاقات الاجتماعية للأفراد. فالملاحظ أن المرؤوس يظهر ولاءً كبيرًا للرئيس أو المنظمة. ويعامل الرئيس في المقابل  المرؤوس معاملة طيبة، ويعمل على مساعدته.  

2. قيم الأسرة :

في ظل سيادة مبادئ الثقافة الكنفوشيسية، فإن علاقات أفراد الأسرة بعضهم ببعض تعتمد على دور الأب، حيث إن الأب صاحب السلطة الوحيد في الأسرة. وعندما يكون الأب قويًا، فإن ذلك يؤدي إلى إحداث توازن وتآلف بين أفراد الأسرة. وتطبق مثل هذه العلاقة على المنظمات الكورية.  فصاحب المنظمة أو مالكها يعد بمثابة الأب، وعلى المرؤوس طاعته واحترامه والوثوق به، وعلى المالك أو الرئيس الوفاء بمطالب المرؤوسين.

3. روح الفردية:

إن روح الجماعية أو الفريق شعار قوي بالإدارة الكورية، حيث يتم التأكيد على العمل من خلال الفريق الواحد المتضامن. وعلى الرغم من ذلك، فإن المنظمات الكورية لا تهمل الروح الفردية، من منطلق اقتناعها بأهميتها في الإبداع، وقدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة.

4. نظم إدارة الأفراد:

هناك بعض الخصائص التي تميز نظم إدارة الأفراد بالمنظمات الكورية، وتنطلق تلك الخصائص من الثقافة والمورثات الكورية. مثال ذلك نظم الأجور والمكافآت تعتمد أساسًا على الأقدمية. ولكن مع نمو المنظمات وتقدم النظم الإدارية بها، بدأت تلك المنظمات في الأخذ بالأداء عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالرواتب والمكافآت، كما أن ترقية العاملين في الإدارة التشغيلية تعتمد في المقام الأول على الأقدمية. وذلك على عكس مستوى الإدارة العليا، حيث تتم ترقية ومكافأة المديرين على أساس الأداء. 

من المؤكد أنه لا يمكن استنساخ تجارب الدول بحذافيرها؛ فالظروف التي تطورت فيها كوريا، والموقع الجغرافي يجعل من التجربة الكورية تجربة فريدة وخاصة بالشعب الكوري. غير أن هذا لا يمنع من استخلاص بعض الدروس والعبر، التي يمكن أن تكون مفيدة لدولة السودان بعد انتهاء هذه الحرب، والتي قضت على النذر اليسير من البنية التحتية المهترئة، بالإضافة  إلى  العجز التام خلال الحقب الماضية منذ الحصول على الاستقلال من التاج البريطاني في تحقيق نهضة شاملة، بالرغم من توفر موارد طبيعية ومالية ضخمة، وتوجد في وضع أفضل من وضع كوريا بعد الحرب الكورية، ويتلخص أهم الدروس فيما يلي:

1. دور الدولة: لعبت الدولة دورًا كبيرًا وإيجابيًا في عملية التنمية الاقتصادية. ويشار إلى أن التدخلات كانت ترتكز على إرادة سياسية صلبة وثابتة، وتعتمد التخطيط  الاستراتيجي الشامل بعيد المدى، والسياسات التنموية السليمة والملائمة للواقع الكوري. كما أن الدولة كانت ترى أن التنمية الاقتصادية ستساعدها على بناء قوتها لمواجهة الخطر الشمالي، وعدم تكرار تجربة الاستعمار الياباني.

2. التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص: 

أظهرت التجربة الكورية أن الحكومة كانت قادرة على تقليل مشكلات التنسيق بينها وبين القطاع الخاص وكانت قادرة، بفعل العلاقات التي نسجها البيروقراطيون مع الشركات الكبرى والبنوك- على الحصول على المعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات الاستثمارية، وتوجيه الموارد إلى القطاعات التي يمكن أن تساهم بفاعلية في النمو الاقتصادي.

3. البحث العلمي:

 أصدرت كوريا الكثير من القوانين لتشجيع البحث العلمي، وأنشأت العديد من المكاتب والهيئات لتنسيق البحوث، وأنفق كل من القطاعين الخاص والعام موارد مالية ضخمة لردم الهوة التي كانت تفصل كوريا عن الدول المتقدمة، ثم أصبحت تنفق الآن لتطوير تكنولوجيا جديدة، وتحقيق المزيد من التقدم، خصوصًا في مجالات تقنية المعلومات وتقنية البايوتكنولوجيا، للحفاظ على مكانتها كقوة تكنولوجية.

4. الاستثمار في العنصر البشري: 

أثبتت التجربة الكورية أن تطوير قدرات الشعوب عبر التعليم والتدريب ضروري لخلق شروط تسمح بمواكبة التطورات، والقدرة على المنافسة، وتحسين الإنتاجية، مما يساهم بشكل حاسم في التنمية.

5. استغلال الظروف الدولية:

وجدت كوريا نفسها عالقة في الصراع الدائر بين المعسكرين الغربي والشرقي، فاستغلت تحالفها مع الولايات المتحدة لتحقيق التنمية الاقتصادية كجزء من بناء قوتها الشاملة، وتحقيق استقلال سياسي واقتصادي وتكنولوجي وصناعي.

وكخلاصة يمكن القول بأن التجربة الكورية- سواء على مستوى النهوض أو على مستوى تجربة إعادة الإعمار بعد الخروج من حرب مدمرة- كانت ناجحة، لكنها لم تكن مثالية،   ولذلك ينبغي الانتباه إلى أن دفع الاعتماد على الشركات العملاقة  أدى إلى تغول هذه الأخيرة واحتكارها لكل الأنشطة على حساب الشركات الصغيرة، كما نتج عن السياسات التنموية لكوريا اختلال كبير في التنمية بين سيول والمناطق الأخرى، وتفاوت كبير في الاستفادة من فرص التنمية بين الطبقتين الفقيرة والغنية؛ ما جعل الطبقة العاملة تدفع أثمانًا باهظة خلال السنوات الأولى، حيث جُردت من كل حقوقها تقريبًا. ولكن بالرغم من ذلك تبقى التجربة الكورية مثالًا يبرهن على أن الإرادة السياسة والتخطيط السليم والبعيد المدى وحسن استعمال الموارد، وقبل كل ذلك الانطلاق من تطوير ذاتي ونقدي للقيم والثقافة المحلية، قد يمكن للشعب السوداني، في حال استلهامه التجربة الكورية، من النهوض وتبوؤ مكانة تليق بتاريخه وحضارته العريقة، والتي تعبر عنها الشواهد المكتشفة في العديد من المناطق، والتي تبدأ من شمال السودان وتمتد الى كل أنحائه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *