

بقلم : زين العابدين الحجّاز
• قم ياطرير الشباب غنّ لنا غنّ
ياحلو يا مستطاب أنشودة الجّن
وأقطف لي الأعناب وأملأ بها دنّي
من عبقري الرباب أو حرم الفن
صح في الربى والوهاد واسترقص البيدا
وأسكب على كل ناد ما يسحر الغيدا
وأمسح على زرياب وأطمس على معبد
وأمشي على الأحقاب وطف على المربد
وأغشى كنار الغاب في هدأة المرقد
وحدث الأعراب عن روعة المشهد
صور على الأعصاب وأرسم على حسي
جمالك الهياب من روعة الجرس
فاستدن بابا باب وأقعد على نفسي
حتى يجف الشراب في حافة الكأس

نشر الدكتور محمد عبدالله الريح على موقعه في الفيسبوك مقالا كتبه الدكتور عبداللطيف سعيد المحاضر بكلية اللغة العربية في جامعة إفريقيا العالمية تحت عنوان (ماهي « انشودة الجن « التي جنّ بها الناس جنونا ؟ ) قال فيه :
لا تجد في السودان من له أدني مسكة من أدب إلا وهو يحفظ قصيدة أنشودة الجن للشاعر الكبير التيجاني يوسف بشير أو إن لم يحفظها كلها يحفظ جزءا أو أجزاء منها وهي دائرة على الألسن بسبب اللحن الراقص الجميل الذي وضعه وتغنّى به الفنان سيد خليفة ومما ثبّت هذه القصيدة في الأذهان هو أنها مقررة في منهج الأدب في المدارس ولذلك صارت متداولة بين أجيال المتعلمين من السودانيين . كلنا إذن نحفظ ونغني ونرقص مع أنشودة الجن للتيجاني يوسف بشير .. ولكني لما تفحّصت القصيدة فوجئت بأننا نفعل كل ذلك مع أنه لا أحد منا يعرف ماهي أنشودة الجن ومن هو طرير الشباب هذا الذي يطلب إليه الشاعر أن يغني لهم أنشودة الجن .. فلا نحن نعرف طرير الشباب ولا نعرف أنشودة الجن بل إن كل ما نعرفه عن طرير الشباب هذا هو أنه حلو ومستطاب كما وصفه الشاعر والناس لايسألون وكلهم يعجبون ويغنون ويرقصون! …. هذه قصيدة شاقة ومخيفة . ليت شعري ماذا سيقول هذا المثقف الضخم وهذا الصوفي المعذّب حينما يطل علينا من برزخه ونحن نرقص ونغني على أنغام طلاسمه التي عذّبته وعنّته أتراه سيقول مبتسما في حيرة : (اللهم أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون !!!)
حاول الدكتور عبداللطيف أن يفك طلاسم و رموز هذه القصيدة في شكل تساؤلات و تأويلات محتملة لنصوصها .
علق الدكتور ود الريح على هذا المنشور بقوله : (يستهويني حديث الذين يتأملون فيفتحون لنا أبوابا ومنافذ للتأمل والتفكر) .
فانهالت عدة تعليقات على المقال اخترت منها : أستشهد في مثل هذا المقام بمقولة الراحل العلامة عبد الله الطيب فدائما ما يقول الشرح يفسد الشعر …وأحيانا النقّاد يتعمقون لدرجة أن يخرجوا من مقصد الشاعر لذا كثيرا ما يقول المتنبي : ابن جنّي أعلم بشعري منّي …أظن أن العالم النحرير عبد اللطيف اتجه نحو ألفاظ النص أكثر مما ينبغي حتى توصل الى تحليل يبدو به شيء من الغرابة …فالتيجاني معروف بتصوفه ومرّ بحياة متنوعة ما بين الشك واليقين فلذا كثيرا ما يميل الي الغموض والتهويمات والتفسير الباطني والإشارات والرمزية فموضوع النص حسب فهمي واضح وهو الغزل ولكن التدرج في النص صاحبته خواطر متعددة أظهرت عبقرية التيجاني ….وقديما سئل شاعر : ما الشعر ؟ فقال : شئ يأتي على ألسنتنا ونقوله ).
(ألمح علاقة بين (أنشودة الجّن) وبين سفر الكتاب المقدّس (أنشودة الأنشاد) أو (أنشودة سليمان) و طرير الشباب ربما هى الفتاة (شلوميت) الشخصية الرئيسية المذكورة في ذلك السفر الذي يحكي عن علاقة حب بين رجل و امرأة و قد تعني مجازا علاقة المحبة بين المسيح و الكنيسة و تابعيها .عايز ليك تأمل أكتر من كدا ؟؟؟ ما الحكاية كلها جن في جن يا بروف .
الأخير كان تعليقي الذى أشاد به الدكتور ود الريح قائلا: (تشكر يا زين … عايزين تفكير مليان كدا زي دا) مما شجعني على التنقيب لاحقا فيما ذهبت اليه و خلصت الى الآتى :
في محاولتي لفك طلاسم قصيدة (أنشودة الجن) و مقارنتها مع (أنشودة الأنشاد) اتبعت أسلوبا تأويليا زاوجت فيه المفهوم النظري وهو المساءلة والاستنطاق عبر آليات الحفر والتفكيك لكلمات القصيدة من ناحية علاقاتها الدلالية و رمزيتها مع الموروث الثقافي الذاتي و أعني الخلفية الثقافية لشاعر هذه القصيدة.
الموروث الثقافي
ولد الشاعر أحمد التيجاني يوسف بشير محمد الإمام جذري بأم درمان عام 1912 ولقب بالتيجاني تيمناً بصاحب الطريقة المعروفة العارف الشيخ أحمد التيجاني. بدأ تعليمه بخلوة عمه الشيخ محمد القاضي الكتيابي وهذا الطابع الديني ظاهر في شعر التيجاني الصوفي. حفظ القرآن ثم رسم طريقه إلى المعهد العلمي بأم درمان فألمّ بعلوم العربية والفقه وابتدأ يقرض الشعر بين أنداد له أفذاذ . تم تكفيره من قبل تلاميذ ومعلمي المعهد العلمي وفُصل منه ولقد نظم شعراً في ذلك في رائعته المعهد العلمي التي قال فيها:
ما زلت أكبر في الشباب وأغتدي
وأروح بين بخ ويا مرحي به
حتى رُميتُ ولستُ أول كوكب
نفس الزمان عليه فضل شهابه
قالوا وأرجفت النفوس وأوجفت
هلعا وهاج وماج قسور غابه
كفر ابن يوسف من شقي واعتدى
وبغى ولست بعابئ أو آبه
قالوا أحرقوه بل أصلبوه بل أنسفوا
للريح ناجس عظمه واهابه
ولو أن فوق الموت من متلمس
للمرء مد اليّ من أسبابه
كان التيجاني قارئاً جيداً في شتى ضروب المعرفة وقد حقّ له استيعاب كتب الأديان السماوية من توراة و إنجيل و قرآن و كتب الأدب القديم والجديد والتصوف والفلسفة كما كانت له متابعات متميزة لرموز المدرسة الرومانسية من شعراء أوروبا و كان معجبا بأمير الشعراء أحمد شوقي . لم يتوقف عن القراءة والكتابة حتى وهو على فراش المرض . توفى في ريعان شبابه بداء السُل عام 1937 في مستشفى الارسالية بأم درمان عن عمر لم يتجاوز الخامسة والعشرين رحمه الله.
بهذه الخلفية الثقافية لابد أن يكون التيجاني قد اطلع على أسفار الكتاب المقدس و من ضمنها سفر (أنشودة الأنشاد) و لابد ان يكون قد اطلع على (نشيد الجن) وهو أحد فصول المسرحية الشعرية (مجنون ليلى) لأحمد شوقي . (أنشودة الأنشاد) هو أحد أسفار الكتاب المقدّس وحسب المصادر قد كتبه سيدنا سليمان عليه السلام و محوره الرئيسي هو الحب الوجداني بين رجل و امرأة عبارة عن حوار منظوم يدور بينهما ومن خلاله يتبين انتقالهما من مرحلة الغزل إلى مرحلة تحقيق الزواج . هذا السفر يفسره المسيحيون من خلال الرموز بأنه نشيد المحبة الروحية التي تتغني بها الكنيسة وكل عضو فيها لعريسها السماوي السيد المسيح في عرس أبدي يعبّر فيه بأن النفس عندما تدخل إلى أحضان الله تري كل شيء جديدا و جميلا فتتشبع وتستريح تماما بالحب الإلهي ولا تكون في عوز بعده . يقرأ سفر (أنشودة الأنشاد) في عيد الفصح إشارة إلى أنه أنشودة الأبدية والكنيسة تترنم بها خلال ذبيحة الفصح . المسيح هو العريس والكنيسة هي العروس وتسمّي في النشيد (شلوميت) وهو الإسم المؤنث ل (شلوم) أو سليمان الذى سخّر الله عزّ و جلّ (الجّن).
….(نواصل)
شارك المقال