أم درمان.. حين كانت البراميل تروي حكايات حاج موسى

21
غلاف أيام زمان
Picture of بقلم : زين العابدين الحجاز

بقلم : زين العابدين الحجاز

• في مؤلفه “ أيام زمان “ كتب الفريق ركن م . مزمل سلمان غندور المقدمة التالية: 

لقد أجمع علماء التربية بأن السنين الأولى في حياة الطفل لها أثر   عميق فيما يعقبها من سنين حياته اللاحقة و أن الصور و اللحظات   التي عاشها قد تنطبع في ذاكرته البكرة كما تنطبع الصور على     ورق التصوير الحساس و أيام زمان ما هي الا صور ارتسمت في  ذهن طفل “عفريت “ عاش طفولة سعيدة حافلة في أم درمان رأيت أن أعيد رسمها بالقلم على صفحات الورق ولم أفعل شيئا سوى أني نظرت فرأيت و كتبت و شكرا لذكرى عاطرة لأيام خلت في زمان خلى و لن يعود.

ثم سرد في نفس الكتاب ذكرياته في طفولته  بأم درمان عن شخصية حاج موسى كالآتي :

 في الزمان البعيد كان هناك فضاء واسع يمتد من شركة النور (الادارة المركزية) بأم درمان حتى قضيب الترام وكانت الضبطية تقع في الركن الجنوبي الشرقي من ذلك الفضاء بحائطها المنخفض والذي تآكل جزء منه بشكل واضح نتيجة لاتخاذه ممرا يتسلقه المواطنون عند دخولهم الى الضبطية من هذا الاتجاة.

وفي الركن الشمالي الغربي من الفضاء بالقرب من  شركة النور كانت هناك شجرة لالوب كبيرة عالية تجمعت الحجارة تحتها بأحجامها المختلفة وظهر عليها القدم وكستها السنون بشئ من الرهبة، وقد كان الصبية في ذلك الزمان يخافون من أشجار اللالوب العالية لأن الحبوبات كن يروين عن الاشجار المسكونة بالشياطين والعفاريت وعن الدبايب (الثعابين) الطويلة التي تسكن تلك الاشجار والتي ربما تحرس الكنوز الدفينة القديمة تحت تلك الاشجار.

وفي الطرف الآخر من الميدان وبالقرب من الضبطية تقوم شجرات من اللالوب كانت احداها قربية جدا من حائط الضبطية وكان أحد موظفي الضبطية يربط حمارة تحت تلك الشجرة بجنزير حديدي وكان من عادة الحمار عندما يتعب من الرقاد والتقلب تحت الشجرة يقف ويدور حول الشجرة ويترك الجنزير الحديدي آثاره على ساق الشجرة الأمر الذي أثر في صحتها فاعتلت ويبست وماتت وظلت لفترة طويلة بعد ذلك عودا جافا الى أن أزالتها الأيام مع غيرها ليقوم مقامها المجلس البلدي ودار المحاكم بأم درمان كما قام مركز البوليس في الجانب الغربي من الميدان . ّّ

شجرة اللالوب الكبيرة بالقرب من شركة النور والتي قام مركز البوليس في مكانها الآن عرفت بشجرة حاج موسى . وحاج موسى رجل ضخم الجسم أسوده يرتدي جلبابا كبيرا ذا أيادي لها فتحات واسعة وله وجه مفرطح كبير عليه عدد قليل من الخطوط الرقيقة والتي تدل على أنه أصلا من سكان غرب أفريقيا وله لحية كثّة عليها بعض شعرات من الشيب وصوته عميق أبح يحمل بيمينه دائما عكازة ضخمة وهو لا يسكن تحت الشجرة ولكنها مقيل له في بعض أيام الصيف الحارة أما سكناه فكانت في الغالب في العباسية (فريق فلاته) . وحاج موسى هذا لم يكن يؤذي أحدا بالرغم من شكله المخيف ومظهره المرعب ولكن الغضب يبدو عليه دائما فهو يدور في طرقات المدينة وخاصة مناطق السوق والعباسية والموردة يحمل عكازته الضخمة وعندما يصل الى أحد براميل الأوساخ السوداء التي توجد في أطراف بعض الأزقة يبدأ حاج موسى في ضرب البرميل بعكازته الضخمة كأنما بينه وبين البرميل ثأر قديم و يوجّه للبرميل كلمات صارمة بلغة غير مفهومة وبعد أن يشفي غضبه من ضرب البرميل الذي يكون قد انقلب على الأرض ان كان خاليا من الأوساخ . يواصل حاج موسى مروره على أزقة المدينة يتبعه الصبية من بعيد حتى ينتقل من حي الى حي فيعود الصبية الى حيهم ويتولى متابعته صبية آخرون من الحي الآخر .

وقد كان في ذلك الفضاء العريض ميدان لكرة القدم يلعب فيه فريق يسمى (تيم فاروق) كان أفرادة من أبناء العباسية وحي الأمراء وحي الضبطية والارسالية و الشيخ دفع الله وسمي بتيم فاروق لما كان للأمير فاروق أمير الصعيد في ذلك الزمان البعيد من شعبية لدى شبان ذلك الزمان.

وعندما قامت الحرب العالمية الثانية حفرت الحكومة خنادق عميقة وكثيرة في ذلك الفضاء يدخل اليها سكان الحي من جانبي الفضاء وموظفو الضبطية وشركة النور عند انطلاق صفارات الانذار فتعذر لعب الكرة في الميدان وانتقل أفراد تيم فاروق الى ميدان جامع الخليفة ثم تفرق أفرادة وتشعّبت بهم سبل الحياة فانفض سامرهم وانتهى تيم فاروق الا أن بعض شخصياته لا زالت عالقة بالأذهان مثلا أولاد عبدالمحمود وعمر الضمري وغيرهم.

لقد عرفت حاج موسى عندما أدركت وخرجت الى الطريق ألعب مع الصبية فصار حاج موسى شخصية ذات طابع خاص وهو في نفس الوقت مظهر من مظاهر أم درمان في ذلك الزمان . لكني أسأل من أين جاء حاج موسى وما سبب جنونه ولماذا ينصب غضبه على براميل الأوساخ ولكني ألفت رؤية حاج موسى وكنت أظن أن حاج موسى لا يكير ولا يشيخ ولا يموت ولكن حاج موسى كبر وعلاه الشيب ثم اختفى حاج موسى ففقدت شيئا من حياتي أدركته بعد زمان فقد تغير الفضاء الواقع شرق شركة النور وقام مركز البوليس مكان شجرة حاج موسى وقد ظللت أظن لوقت طويل أن الذين أزالوا شجرة حاج موسى وجدوا تحتها ثعبانا ضخما يحرس كنزا من أواني الفخار مليئة بالذهب . ثم قام المجلس البلدي وتغيّرت معالم المكان ولكني مع ذلك ظللت أذكر جدّي الرجل الوقور الشجاع الذي كان يجلس أمام داره قبالة ذلك الفضاء عندما تطلق صفارات الانذار ويأبى دخول الخنادق مع الناس الذين كانوا يرتجفون خوفا ورعبا بل كان على عكس ذلك يخرج بندقيته وسيفه وحرابه التي قاتل بها في موقعة كرري ضد الغزاة حتى أصيب في فخذه بشظية من مدفع بقيت داخل فخذه عدة سنوات . ظللت أذكر جدّي الذي كان يروي التاريخ ويدونه ويتحدث عن الأدب والفن والفكاهة وظللت مع جدّي أذكر الحاج موسى الرجل الذي أتى الى  أم درمان من مكان بعيدغير معروف وظلّ بها سنوات طوال يضرب البراميل السوداء غاضبا ثم يدور ويدور حول المدينة وكأنه يبحث عن عدو مجهول ثم يختفي حاج موسى ويظل جدّي يدون التاريخ حتى شاخ وعجزت يمناه عن مسك القلم وارتجف خطه الجميل على قرطاس ثم تلاشى كما يتلاشى النغم الجميل وراء الأفق.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *