أم بلينة السنوسي: صوت المرأة «روعة».. حين يمتزج بأنفاس التراث ويفيض بالشجن

21
حسن عبدالرضي

حسن عبدالرضي الشيخ

كاتب صحفي

• في قلب كردفان، حيث تمتزج الرمال الذهبية بأنفاس التراث وروح البساطة، ولدت عام ١٩٤٢م قامة نسائية فنية نادرة، اسمها «أم بلينة السنوسي». نشأت في إحدى ضواحي مدينة النهود، ثم ترعرعت وسط دفء الأبيض، عاصمة الولاية، تحمل في أعماقها نغمة من نغمات الأرض ورائحة «المطر الأول» على الرمال.

ورثت أم بلينة الجمال الصوتي من بيئةٍ تفيض بالشجن والتراث، وكان لوالدها الحاج السنوسي حمدان ووالدتها الحاجة النية تية جابر جودة، دور في تشكيل شخصيتها القوية رغم التحديات المجتمعية آنذاك. لم تكمل تعليمها بعد المرحلة الابتدائية، إذ سرعان ما جذبتها أنغام الفن وأخذتها في مسار اختارته بقلبٍ مفتوح وإصرار نادر.

وكانت البداية الناعمة في ثنائية نسائية جريئة. إذ ظهرت موهبة أم بلينة في زمن لم يكن فيه من السهل أن تتقدم امرأة نحو ميكروفون الإذاعة أو خشبة المسرح، فشقّت طريقها بإصرار وثقة، متأثرة بأصوات الجيل الثاني من فناني «حقيبة الفن»، مثل صلاح ابن البادية، وإبراهيم عوض، ومحمد وردي. غير أن الجرأة الحقيقية كانت في مشاركتها الفنانة فاطمة عيسى في تكوين أول فريق نسائي غنائي ثنائي في السودان، حمل اسم «ثنائي كردفان».

وكانت الأغنية الأولى «ارحموني يا ناس» من كلمات وألحان الشاعر أحمد محمد هارون، مؤسس فرقة فنون كردفان، إيذاناً بانطلاقة فريدة، تتحدى التقاليد بذكاء الفن، وتقول إن لصوت المرأة حقه في أن يُسمع ويُحترم.

لكن مسيرة الثنائي لم تدم طويلاً، فقد انسحبت فاطمة عيسى من الساحة الفنية تحت ضغط المجتمع، واتجهت لاحقاً إلى العمل الإذاعي حتى طُردت تعسفاً في عهد نظام الإنقاذ. أما أم بلينة، فاختارت أن تواصل الطريق وحدها، متحدية العزلة وصعوبة أن تكون «امرأة تغني». فكانت صوتاً منفرداً.. ومسيرة متفردة. 

في عام ١٩٧٠، أجيز صوت أم بلينة السنوسي رسمياً في الإذاعة السودانية بأغنية «وداد» من كلمات الشاعر السر محمد عوض وألحان علاء الدين حمزة. ومن هنا بدأت رحلة أكثر نضجاً وعمقاً، حملت فيها لواء الصوت النسائي في وقتٍ كانت الساحة تموج بأسماء رجالية طاغية. لكنها شاركت في أوبريت «قصة ثورة» مع كبار الفنانين مثل محمد الأمين وعثمان مصطفى، أمام الرئيس الأسبق إسماعيل الأزهري، ووقفت شامخة وسطهم، تؤدي بنبرةٍ مفعمة بالإيمان بقضية الفن والمجتمع.

ولم تكن الأغاني مجرد كلمات وألحان بالنسبة لها، بل كانت مواقف حياتية، وتعبيراً عن وجود أنثوي جريء في فضاء ظلّ ذكورياً سنوات طويلة. تعاونت مع قامات من الشعراء أمثال إسحاق الحلنقي، وأبو قطاطي، وتاج السر عباس، ومع ملحنين كبار مثل جمعة جابر وعبدالماجد خليفة. وفي  سجلها الخالد قدّمت أم بلينة باقة من الأغنيات المميزة التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الجمعية السودانية، ومنها: «وداد» – للشاعر السر محمد عوض، «طيبتو محبّباهو» – إسحاق الحلنقي، «مع الأشواق» – تاج السر عباس، «دلال» – محمد علي أبو قطاطي، «نحن قلنا» – فخر الدين عبدالرحمن، «غربة الأيام» – محمد الهادي السراج، «تعذيب حبك» – مدني محمد طه و»رسالة إلى أم» – خليفة الصادق. وسوف يظل عطاؤها الثر إرثاً خالداً وغياباً لا يُنسى. 

رحلت أم بلينة السنوسي عن دنيانا في العام ٢٠١٨، لكن صوتها لا يزال عالقاً في الذاكرة، يهمس في آذان المحبين، ويتردد في دهاليز الإذاعات القديمة، شاهداً على زمن نقيّ وفنٍ شريف.

لقد كانت أم بلينة أكثر من فنانة، كانت رائدة، امرأة خرجت من رحم كردفان، تحدّت الصمت، وغنّت باسم المرأة السودانية حين كان الغناء تهمة. كانت أم بلينة درساً في الجسارة، والصبر، والتعبير الجميل، وهي الآن جزء لا يتجزأ من خيوط التراث السوداني النبيل. وأم بلينة السنوسي لم تكن مغنية، فقط بل كانت ناشطة في حقوق المرأة، إذ كانت عضواً بالاتحاد النسائي السوداني. وكانت تشارك روابط الطلاب في الجامعات بأعمالهم الخيرية. 

سلامٌ عليكِ يا أم بلينة في الخالدين.. طيّب الله ثراكِ، وخلّد صوتك في وجدان هذا الشعب الطيّب.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *