
محمد المهدي
مستشار التحرير وكاتب صحفي
• الشعر هو ديوان العرب، والشاعر هو المتحدث باسم الأمة والمدافع عنها، ينشر فضائلها، ويجمّل نقائصها حتى ليظنّ أنها مكرمات. وفي العصر الحديث كما في العصور السابقة لم تتغير أغراض الشعر من رثاء ومديح وهجاء وغيرها. وهناك شعراء اشتهروا بالهجاء كالحطيئة، وشعراء كانوا يتكسّبون بمدح الخلفاء والملوك والأمراء (كسير تلج). والشعراء المداحون ما زالوا موجودين في هذا الزمان، يؤدون الدور نفسه، وصار المديح موجهاً للرؤساء والأنظمة الحاكمة وخصوصاً الشمولية والديكتاتورية منها، ففي السودان بدأ الشعراء يدبجون القصائد تجميداً لنظام الفريق إبراهيم عبود، الذي تولى السلطة عبر أول انقلاب عسكري قاده في ما عرف بثورة 17 نوفمبر، فوجدت تلك القصائد من أهل الفن من وضعوا لها الألحان وتغنوا بها، تجميداً للحكم القائم. أما الرئيس الراحل جعفر نميري، الذي قاد انقلاباً وتولى بموجبه السلطة في 25 مايو العام 1969، فقد حظي بعدد كبير من القصائد والأناشيد والأغنيات التي تمجد الرئيس القائد وثورة مايو، وقد تغنى له كبار المطربين مثل محمد وردي، وسيد خليفة، وعبد العزيز محمد داود وغيرهم. علماً بأنَّ نظام مايو بدأ يسارياً تحت إدارة كاملة من الحزب الشيوعي، وحدثت التحولات المعروفة، المتمثلة في انقلاب هاشم العطا، ومحاكمة كوادر الحزب الشيوعي من العسكريين والمدنيين بعد فشل الانقلاب، وإعدام عدد كبير منهم، ثمّ كانت المصالحة الوطنية بين نميري والأحزاب، ثم التحول إلى أقصى اليمين والتحالف مع الجبهة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي. وفي كل مرحلة من تلك المراحل كانت الأغنيات التي تمجد ثورة مايو الظافرة المنتصرة وتصور للناس السودان وكأنّه المدينة الفاضلة، وتؤيد كل قرارات السلطة وتحولاتها. وشهادة مني للتاريخ، فقد كانت الكلمات التي كتبت، والألحان والأداء في منتهى الروعة، وأنا شخصياً ما زلت أردد بين الفينة والأخرى بعض تلك الأغنيات إعجاباً بها (تحسبو لعب)، و(بِفِكْرك ووعيك يا ريس يا داب سودانا بقى كويس) (أيّدناك بايعناك، يا نميري أيّدناك، للجمهورية أيّدناك مية المية أيّدناك) (بالملايين قلناها نعم) أداء سيد خليفة، و(نقولا نعم وألف نعم ليك يا القايد الملهم) أداء عبد العزيز محمد داود. مجمل هذه الكلمات يبث خلالها الشعراء أمنياتهم، ويبشرون الشعب بالمشاريع التنموية العملاقة، التي تعقبها طفرة اقتصادية كبرى نجني ثمارها رغداً في العيش ورفاهية. وعلى رغم أن غالبية تلك الأمنيات لم تتحقق في أرض الواقع، وظلت حتى الآن مجرد أمنيات، إلا أن شاعراً كتب كلمات تغنى بها فنان شعبي، فهو يخاطب الرئيس نميري قائلاً: (واصل كفاحك خليك حريص
انت القائد وانت الرئيس
خليك حريص على كل مواطن
عاجباه ثورة لازم تعيش)، لكن هذه الأغنية تضمنت أمنية غريبة، حيث تقول كلماتها (دايرين نشوف كل الغبش واقفين صفوف)، ولا أدري هل كانت لحظة كشف حجاب لدى الشاعر، أم دعوة استجيبت، فبعدها بدأت الأزمات تضرب البلاد، فرأينا الغبش واقفين في صفوف محطات الوقود، ثم توالت الأزمات، فكانت صفوف الغبش أمام الأفران للحصول على الخبز، والصفوف أمام البنوك، لفتح الحسابات، أو لسحب الأموال.. ولما كثرت أزمات البلاد، رأينا صفوف الغبش في مراكز الجوازات، للحصول على وثيقة السفر، بنية مغادرة هذه البلاد والبحث عن سبل لحياة أفضل.
لكننا سنتشبث بهذه البلاد، وسنبذل كل ما في وسعنا لنجعل الحياة فيها أفضل للأجيال القادمة.
شارك المقال