
د. خالد مصطفى إسماعيل
كاتب صحفي
• في هذه الحرب نحتاج أن نستعيد قيم الماضي، حينما كان الإنسان إنساناً، وحينما كانت الفطرة سليمة، وحيثما كان الناس يحبون مكارم الأخلاق.
صحيح أن الحرب هي الحرب كما قال زهير (وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم)، فالحرب في جوفها القتل والدمار والخراب والنزوح والتشرد وغيرها من الموبقات.
ورغم أن الحرب هي أم المآسي، ولكنْ للحرب أخلاق أيضاً، فالرجال والنساء عندما يحملون قيماً وأخلاقاً عالية، يحملونها حتى في أشد الأوقات صعوبة وهي أوقات الحرب.
نعود إلى ماضينا لنستلهم منه جزءاً من قيمنا وأخلاقنا، ونستبين ملامحنا التي فقدناها، ففي عهد السلطنات والممالك الإسلامية في السودان، حدثت حرب شهيرة بين مملكة الفونج ومملكة تقلي، رغم ما كان بينهما من روابط ومصاهرات وعلاقات تجارية واجتماعية وسياسية، وكانت الحرب نتيجة لخلاف بين مك الفونج ومك تقلي، فأرسل مك الفونج حملة لمحاربة تقلي في جبال النوبة، فلما وصلت جيوش الفونج إلى تقلي، دارت بينهم معارك، فكانت المعارك تدور طوال ساعات النهار، وعندما يأتي الليل وتنتهي المعركة، ويعود كل جيش إلى معسكره، يقوم مك تقلي بإرسال الطعام إلى جيوش الفونج الغازية لمملكته، فيأكلون ويشربون ويخلدون للنوم، وفي صباح اليوم التالي تبدأ معارك جديدة، وهكذا استمرت المعارك أياماً عدة، وفي كل يوم يأتي الطعام إلى جيوش الفونج ليلاً، ولما تساءلوا عن الأمر قالوا لهم إنكم ضيوفنا، ونحن نكرم الضيف حتى لو جاء غازياً، وحتى لا يكون الجوع حجة لكم في عدم القتال، أو سبباً في الهزيمة، وحتى تكون المعركة متكافئة يجب أن يكون كل من الجيشين شبعان.
ولما علم قادة الفونج بهذا الأمر أنهوا القتال، وقالوا لا يمكننا أن نقاتل قوماً هذه هي أخلاقهم، وانتهت الحرب بالصلح.
فنحن ما أحوجنا هذه الأيام لقيم وأخلاق الماضي هذه، وإن كنا نحن فعلاً من أصلاب هؤلاء الرجال، وأرحام تلك النساء، لماذا لم نكتسب أخلاقهم؟!
الآن مدن سودانية كثيرة تجوع وتحاصر، ويموت الأطفال وكبار السن فيها جوعاً، ويموت المرضى نتيجة انعدام الدواء، ويموت الأمل في غد أفضل، فالمحاصِر سوداني والمحاصَر سوداني أيضاً..!
مدن مثل كادقلي والدلنج في جنوب كردفان، والفاشر في دارفور، وبابنوسة في غرب كردفان، مدن سودانية وناس سودانيون يموتون جوعاً، بسبب حصار سودانيين آخرين لهم، والمؤسف حقاً أن المحاصَرين غالبيتهم من المدنيين العزل، والمدهش أن من يحاصرهم يدعي النضال لنيل حقوقهم، والأدهى والأمر أن الدول الأخرى تشعر بالقلق، وتطلب من السودانيين فك الحصار عن أهلهم السودانيين، حتى تستطيع توصيل المساعدات لهم لإنقاذ حياتهم من الجوع والهلاك. فتأملوا!
هذه الحرب مسخرة، وأخرجت أسوأ ما فينا من صفات، أو فلنكن أكثر دقة ونقول إن هذه الحرب أخرجت أسوأ ما في السياسيين السودانيين من صفات.
إذا كانت الحرب قدراً فرض علينا، فلماذا الجوع؟! ولماذا الحصار؟!
دعوا المدنيين يأكلون، وإذا كان لا بدّ من حرب، تحاربوا شبعانين كما فعل الفونج وتقلي، دعونا نستلهم قيمهم وأخلاقهم في الحرب.
رسالتي للجميع:
افتحوا المسارات للمنظمات والخيرين لتدخل الإغاثة والمساعدات للمدنيين، وأبعدوا المدنيين ما استطعتم من مناطق النزاع والحرب المباشرة، أبعدوا عنهم القذف و الاستهداف المباشر.
واسمحوا للتجار بإيصال البضائع لهم.
وإن كنتم تريدون خيراً للشعب السوداني، أو تسمعون له رأياً (أوقفوا الحرب). فالسلام هو خيار الشعب، والسلام.
شارك المقال