أبو لولو للسفريات.. رحلة إلى قعر الإنسان

145
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• في أقصى نقطة من الوجود، حيث ينتهي الضوء ويبدأ الظل، يقف رجل لا يُرى، لكن أثره في كلّ جرح لا يندمل، وفي كلّ أمّ لا تكمل عدّها لأولادها، وفي كل طفل تُنسى ضحكته في زحمة الرصاص.

ينادونه: «أبو لولو للسفريات»، كأنه وكيل معتمد لشركة موت عالمية، يصدر تأشيرات اغتيال، ويوزع تذاكر العبور إلى المجهول، لا إلى باريس ولا إلى إسطنبول، بل إلى حفرة لا قرار لها.

تعهد، لا بحلف ولا بعهد، بل بنزوة شيطان عجوز، أن يقتل ألفين من الأبرياء.

وحين اقترب من الرقم، تذكر أنه نسي العد، فرجع إلى الصفر، لا توبة، بل شرهاً، كأن الدم طعام، والجثث أكياس سفر توزن بالأطنان.

أبو لولو؟؟؟!

كيف يكون هذا أباً؟؟؟!

استفهام لا يُطفئه الدم.

يا لعجبي!

أي أب هذا الذي يقدم أطفالنا قرباناً لنار لا تشبع؟

أي أب يُقبّل الجبين ثم يصوب الرصاص نحوه؟

أي أب يسمي نفسه «أباً»، والدم يجري من لقبه كالنهر المحرّم؟

إنه ليس أباً،

بل غاصب للأبوة،

يرتدي اسم «الأب» كما يُرتدى القناع في محفل الموت،

ويحمل في يديه لوحة مكتوب عليها:

«أّحبكم حتى الموت، ثم أعيد ترتيب الموت حباً».

هذا ليس بأب، فمثل هذا لا يُنجب، بل يُجهض.. ويحوّل «الأب» إلى لعنة، والطفل إلى رقم في خبر عابر.

من أي غبراء جاء هؤلاء؟!!

لا من صحراء، ولا من بحر، ولا من سماء.

بل من خربة ضمير باعت أرضها، ومن مشيمة نتنة علّمت أن القتل هو الوسيلة، والبقاء هو الغاية، ومن معهد دين أسس في أدبياتهم على أنّ الله لا يرى إلا من يحمل السلاح. وأن القتل يُستتبع بالتكبير.

جاؤوا من تحت عباءة صمت دولي، أمّه «تأسيس» وكفيلها أبوظبي، وجدّته الأمم المتحدة، وأبوه مجلس الأمن، وخاله القانون الدولي الذي لا يُطبّق إلا على الضعيف، ويُعطى للغاصب والقاتل صك براءة مُوّلد بالرياح.

هم لا يقتلون، بل يعيدون صياغة الموت.

ولا يقتلون بدم بارد، بل يقتلون بفنّ بارد، يديرون الموت كما يدار فيلم رعب سينمائي، بمؤثرات بصرية، وبموسيقى تصويرية من أنات الأمهات.

يغتصبون الحرائر، لا شهوة، بل إذلالاً، لأن الشهوة غريزة رجولية، وما لهم من سيرة الرجال نصيب، لأنهم يعلمون أن الأرض لا تُنتزع بالسلاح فحسب، بل بانتهاك الأرحام، فالذكر يُقتل مرة، والأنثى تُقتل مرتين.. مرة بالرصاص، ومرة بالعار.

ينشرون الفزع، لا كغيمة عابرة، بل كمناخ دائم، يُزرع في القلوب، فيفزع الأطفال خوفاً من الدماء وينخرهم الارتعاب.

في الفاشر والغرب الحبيب، حيث تُبنى ميليشيات آل دقلو على أنقاض الآخرين، تقوم حكومة ما يُسمّى بـ «تأسيس»، لا تؤسّس لوطن، بل لمذبحة مؤسّسة، تصدر قوانينها باسم «المذابح العلنية القومية»، وتعلن عن مناقصات لبناء سجون جديدة، وعن مسابقات لاختيار أفضل طريقة لقتل طفل دون أن تُراق دماؤه على التلفزيون.

هذه الحكومة المزعونة والمزعومة لا تخفي جريمتها، بل تعلنها في دواوينها الرسمية، وتصدرها في كتيبات بعنوان:

«كيف تقتل جارك وتُلبسه ثوب الإرهاب»،

ومقدمة الكتيب بخط يد وزير يصافح كفيله بنفس اليد التي أمرت بالقتل.

أمّا المجتمع الدولي، فهو لا يصمت، بل يصمت بعناية، كمن يراقب بتروٍّ ويأكل الفشار، ويُعلن عن «القلق العميق»، ثم يُصوّت على تمديد «القلق» لسنة أخرى.

يُقيم مؤتمرات للسلام، في فنادق خمس نجوم، ويخرج منها ببيان يدين «الطرفين»، كأن القاتل والمقتول سواء، وكأن الضحية هي التي يجب أن تُعاقب، لأنها تجرأت على الموت أمام الكاميرات.

ونحن؟

نحن من بقي؟

نحن من يعد الضحايا، لكن ليس على طريقة «أبو لولو»، لكننا لا ننسى.

نحن من نقول: «كفى»..

و«أبو لولو» لا يموت، بل يتنقّل، من حقل إلى حقل، من مدينة إلى مدينة، من زمن إلى زمن، يُغيّر وجهه، لكنه يُبقي على ابتسامته الثابتة، تلك التي لا تُفهم إلا في حضرة الموتى.

وحين تسألونه:

«لماذا تقتل؟»

يجيبك بهدوء شيطاني:

«لأنني لا أقتل، أنا أُعيد ترتيب العالم، فالقتل هو التنظيم، والدمار هو البناء، والصمت هو الموافقة».

هذا المقال ليس رواية، بل وثيقة عار، يُكتب بدم لا يجف، ويُقرأ بعين لا تنام. فإن استفزّك، فاعلم أنك ما زلت إنسانا.

وإن لم يحرك ساكناً فيك، فاعلم أن «أبا لولو» وزمرته قد بدأوا برحلتهم الجديدة، وقد تكون أنت الوجهة القادمة.

أما نحن فالأمر ـ وبئس ما هو مبسط ـ بأيدينا وحدنا،،،

إن أردنا أن نعيش بكرامة فلنهبط كالسيل، كلنا… شيخ وشاب… لنزاحم عن أرضنا وعرضنا ومالنا، فلا يبقى مكان لأبي لولو ولا لغيره إلا، أو حفرة ندامته.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *