
معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• ما يقارب العامان كانت الخرطوم حبلى بالحكايات، تئن تحت وطأة الألم، وتنظر إلى الأفق بعينين مبللتين بالدمع، لكن روحها لم تنكسر.
كانت تعرف أنها ستعود يوماً جميلة كما كانت وأبهى.
عندما لفّها سواد التمرد، وضاع صوت المآذن بين أزيز الرصاص، بقيت الجميلة صامدة كعروس انتزع منها فستانها الأبيض، وألبست سواد الحرب.
شوارعها التي كانت تضج بالحياة صارت موحشة، وجدرانها التي كانت تنطق بالجمال أصبحت تنزف الألم.
لكن في قلبها كان هناك يقين بأن العابرين على جراحها ليسوا سوى دخان عابر، وأنها ستنهض كما ينهض النيل بعد كل جفاف.
جاء يوم التحرير كفجر طال انتظاره، بزغت الشمس على الخرطوم كما لم تفعل من قبل، وأشرقت معها دموع الفرح في عيون من أبَوا أن يبيعوا ذاكرتهم.
عاد إليها عشاقها، عاد إليها أبناؤها الذين ما توانوا عن التضحية لأجلها.
في لحظة الانتصار تعانقت الأرواح الحرة، تعانقت القلوب التي كانت تهتف باسمها في صمت، تعانقت أرصفة الخرطوم مع خطى العائدين إليها، وعاد الهواء نقياً بعد أن لوثه البارود.
تزينت الجميلة من جديد، وغسلت أوجاعها بدماء الشهداء، ونفضت عن جسدها غبار الغزاة، لتقف شامخة كما كانت دوماً.
الخرطوم مدينة الحُبّ والصمود، لم تكن مجرد عاصمة، بل كانت حبيبة سرقوها ذات ليل، فأعادها العشاق في وضح النهار.
كانت الخرطوم أكثر من مجرد مدينة، كانت دفء الأمهات في الأزقة، وابتسامة الأطفال الذين يلعبون تحت أشعة الشمس الذهبية.
كانت الخرطوم صوت الباعة المتجولين في الأسواق، وكانت حكايات الرفاق عند المساء.
كانت عاصمة الأحلام، ومستودع الذكريات التي لا تموت.
عندما عاد أبناؤها إليها، لم يكونوا فقط يستعيدون الأرض، بل كانوا يستعيدون أرواحهم هويتهم وتاريخهم الذي حاول محوه المعتدون.
لقد كانت الخرطوم مسرحاً لصراع بين النور والظلام، بين الحياة والموت، بين من عشقوا أرضها ومن أرادوا اغتصابها.
لكنها رغم الألم لم تخذل عشاقها.
بكت لكنها لم تنهزم، تألمت لكنها لم تستسلم.
كانت كالوردة التي دهستها الأقدام، لكنها استطاعت أن تزهر من جديد أكثر جمالاً وأكثر شموخاً.
لقد تكسرت على شوارع الخرطوم وعلى طول تاريخها الباذخ، كل المؤامرات، فالخرطوم كانت تلك الأم الحنون، التي حملت السودانيين كلهم على حد سواء.
وسعتهم بحضرهِم وهامشهِم، توسعت رقعتها الجغرافية، فأصبحت من عاصمة إلى مدينة «تريفت»، وزحف لها الريف ولكنها تحملت كل ذلك، لأنها تلك الأم الرؤوم التي تحب أبناءها على اختلافهم طالحهم وصالحهم.
اليوم ونحن نشهد عودتها، ندرك أن الخرطوم لم تكن مجرد عاصمة، بل كانت قلباً نابضاً بالحُبّ والصمود.
مدينة عاشت في وجدان أبنائها حتى وهم بعيدون عنها في المنافي والمهاجر، في الغربة والشتات.
كانت الخرطوم تسكن قلوبهم كما سكنوها، وظلوا يحلمون بيوم يعودون فيه إلى أزقتها، إلى نيلها، إلى بيوتها التي هُدمت، لكنها لم تُمحَ من الذاكرة.
هي الخرطوم التي قاومت الألم بالصبر، والهدم بالأمل، والفقدان بالإصرار.
هي المدينة التي لن تموت، لأنها لم تُبنَ على الإسمنت وحده، بل بنيت على الحُبّ، على الوفاء، وعلى دموع الأمهات، وضحكات الأطفال، ونداءات الباعة في الأسواق، وأغاني العشاق على ضفاف النيل.
الخرطوم ليست مجرد أرض، إنها وطن، وإنها قلب نابض بالحُبّ لمن يستحقونها.
سيكتب التاريخ عن يوم وقف فيه الشرفاء على جسر النيل، يرفعون الرايات، ويهتفون باسمها، ويقسمون بألا يتركوها مرة أخرى فريسة للغزاة.
سيحكون عن البيوت التي هدمت، لكنها لم تهدم في قلوب أصحابها، وعن المدارس التي أغلقت، لكنها بقيت في ذاكرة أطفالها، وعن المساجد التي صمتت لفترة، لكنها عادت تصدح بالأذان، وعن الكنائس التي دقت أجراسها من جديد، لتعلن أن الخرطوم مدينة لكل من أحبها، ومدينة لكل من صانها.
سيحكي السودانيون للتاريخ والإنسانية عن دمار ونهب متاحفهم التاريخية، وفي مقدمتها متحفنا القومي، الذي لم يكتفِ هؤلاء التتار بنهب آثاره ومقتنياته الثمينة، بل أمعنوا في سحق كل ما لم يستطيعوا سرقته وحمله، مما يثبت سعيهم لطمس هوية هذا الشعب العريق، ولكن هيهات فقد ظل «ترهاقا» شامخاً في منتصف المتحف، ليشهد عليهم وعلى ضعفهم وجهلهم، ومن قبل على عدم إنتمائهم لهذا الشعب الأبي، الذي على طول تاريخه شهد أزمات وحروباً وخلافات، ولكنها كانت تتوفر فيها الحدود العليا من الوطنية والنخوة والمروءة.
نعم دمرت وهدمت، ولكن سوف نبنيها أجمل من كل عواصم العالم، سنبنيها بدمائنا ودموعنا وعرقنا.
سنعيد إليها روحها، ونلون جدرانها بألوان الفرح، ونغني في شوارعها أغاني النصر.
الخرطوم لم تكن يوماً مجرد أرض، بل كانت قلباً نابضاً، وها هو ينبض من جديد أقوى من كل الآلام، وأعظم من كل الجراح.
سيشهد التاريخ عن شموخ وعظمة هذا الشعب وقواتهِ المسلحة.
التجلي والإعزاز بمن لم يفرط في الأرض والعرض.
كل المحبة للقابضين على مقابض بيوتهم وذكرياتهم، فلم يبرحوا ديارهم وسط كل بطش المليشيا والمتفلتين.
عادت الخرطوم عروس النيلين، عادت وعادت الذكريات والأحباب والجمال.
ستظل شامخة، وستظل ضوءاً لا يخبو، وأملاً لا ينكسر.
من أحبها سيظل يبنيها، ومن خانها لن يجد له مكاناً بين جدرانها.
أحر التهاني والتبريكات للشعب السوداني العظيم بمناسبة عيد الفطر السعيد وتحرير الخرطوم.
عيدان اجتمعا ليكتمل الفرح، ويعود الأمل، ويبدأ عهد جديد من البناء والتقدم.
كل عام وأنتم بخير، وكل عام والخرطوم وسائر السودان أكثر عزاً وشموخاً.
اللهم احفظ السودان وأهله، واجمع شملهم على الخير والمحبة والسلام.
اللهم أبدلهم أمناً بعد خوف ورخاءً بعد شدة ووحدة بعد تفرق.
اللهم أحقن دماءهم، وداوِ جراحهم، وأعد إليهم ديارهم عامرة بالأمان والاستقرار.
اللهم اجعل الخرطوم وسائر مدن السودان منارات للخير والنماء، وألّف بين قلوب أبنائها، وبارك لهم في وطنهم وأرزاقهم.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وأبعد عنه الفتن ما ظهر منها وما بطن.
آمين يا رب العالمين.
وعادت الجميلة.. وسوف تعود أجمل بإذن الله.
شارك المقال