صديق أحمد
Picture of بقلم: الناجي صالح

بقلم: الناجي صالح

رئيس التحرير

• بصمتٍ مؤلم، رحل الفنان السوداني العملاق صديق أحمد، الذي لم يكن مجرد مغنٍّ عابر، بل كان مدرسةً فنيّةً بحد ذاتها، وأسطورةً من أساطير الغناء السوداني الأصيل. برحيله، انقطع وتر الطنبور الذي ظل يصدح لعقودٍ حاملاً عبق التراث وروح السودان، ناقلاً إلينا ألحاناً خالدةً توارثتها الأجيال، وستظل محفورةً في الذاكرة الجمعية للأمة.
في الشمال، حيث منحنى النيل، وُلد صوت صديق أحمد كالنخلة الباسقة، جذورها في أعماق التاريخ، وثمارها حلوةٌ متنوعة الألوان والأشكال. كان صوته كالسحاب الذي ينتظر الهطول، يملأ الفيافي بدعاش نافع يطرق وجدان السامعين.
في حنجرته، تختزل كل أصناف البلح السوداني، بغلظته وليونته… صوته سفرٌ عبر جغرافية السودان بكل تضاريسها.
هو حنجرة السودان كاملة، اختزلها كلها في صوت واحد، فصديق أحمد ليس مغنياً عادياً، بل هو ظاهرة صوتية فريدة، جمعت تناقضات البلاد في بحة واحدة في صوته.. فشيء من هنا وآخر من هناك.
فهو صوتٌ يُذكّرنا بأن الفن ليس مجرد كلمات وألحان، بل هو تاريخٌ يمشي على قدمين، وجغرافيا تغني بلسانٍ واحد.
وُلد الفنان صديق أحمد في منطقة أرقى بالولاية الشمالية، لكن تنقلات والده الذي كان يعمل بالسكة الحديد قادته إلى شرق السودان، حيث قضى سنواته الأولى وتلقى تعليمه هناك. نشأ في بيئة غنية بالفن، حيث كان عمه الفنان عوض عبدون (المادح الكبير والملحن المعروف) وخاله الفنان عبد الرحيم أرقى من أبرز المؤثرين في مسيرته الفنية.
بدايته الفنية لم تكن مع الطنبور، بل تأثر في البداية بفن الحقيبة والأغاني الحديثة. لكن التحول الكبير حدث عندما عاد إلى أرقى، حيث بدأ يردد أغاني عوض عبدون والنعام آدم، لتبدأ رحلته مع الطنبور.
عندما التقى بالشاعر الراحل عبد الله محمد خير، الذي شكل معه ثنائياً فنياً ناجحاً. كانت أول أغنية خاصة به هي (زينة العمر)، ثم (حبيبي عود)، وكلاهما من كلمات عبد الله محمد خير.
أجاز صوته للإذاعة عام 1970، وسجل أول أغنية رسمية له فيها عام 1972 بعنوان (يا عبلة).
أما التلفزيون، فكانت بدايته عام 1969 عبر برنامج شباب على الهواء الذي يقدمه عثمان محمد خير، حيث غنى رائعته (يا زمان بالله أشهد).
من أبرز فناني جيله الذين تأثر بهم وعاصرهم: محمد جبارة، محمد كرم الله وعثمان اليمني.
كان لصديق أحمد مشاركات فنية عديدة خارج السودان، منها: أول مشاركة خارجية عام 1979 في مهرجان التكامل بين الولاية الشمالية وأسوان. وحفلات في أوروبا، منها مشاركته مع الجمعية السودانية في لندن وإيرلندا.
حيث تفاعل معه الجمهور في أسوان، وقد فوجئ بأن بعض أغانيه معروفة لديهم، بل إنهم كانوا يستمعون لتسجيلات قديمة له. أما في أوروبا، فغالبية الحضور كانوا من الجالية السودانية.
كان صديق أحمد يؤمن بضرورة الحفاظ على أصالة الطنبور، وينصح الفنانين الشباب بالتأني في اختيار الأغاني، ومراعاة مخارج الحروف، لإيمانه بأن جمهور الطنبور كبير ومتنوع. أغاني الطنبور سريعة الإيقاع، ويجب أن تكون الكلمات واضحة.
وكان منزله مقصداً للفنانين الشباب الذين يطلبون مشورته، فكان يعج بفناني الطنبور الجدد الذين يأتون لأخذ النصح، وأغلبهم أصبحوا أصدقاءه.
كان صديق أحمد يهتم بالقصيدة أولاً قبل اللحن، ويقول إن الشاعر عبد الله محمد خير كان ينظم شعراً جميلاً، وكانت قصائده تتناسب مع روح الطنبور.
كما تعامل مع العديد من الشعراء والملحنين، مؤكداً على أهمية التنوع في الأعمال الفنية، ومن أبرز من تعاون معهم: عبد العظيم محمد منصور وسيد أحمد عبد الحميد والدكتور توفيق الطيب البشير.
فعندما سُئل عن ارتباط أغاني الطنبور بالرقص في الحلبة، أجاب: الأمر أشبه بعرض مسرحي، حيث يكون هناك الفنان والفرقة والراقصة. عندما تكون الراقصة متميزة، أغير الكلمات لأتناسب مع اللحظة، مثل: (خلو في إبداعو في فنو المثير.. خلو بس عاينولو أوع يقوم يطير). وإذا همت بالخروج أردد: (تعال بالله أرقص تاني وأتحفنا.. بعينيك لو بتحب تكاشفنا).
خلال مسيرته التي امتدت 45 عاماً، قدّم صديق أحمد أكثر من 150 أغنية خاصة به. وحوالي 10 ألبومات. وعدة أعمال تحت التلحين لم تُنشر.
برحيل صديق أحمد، خسر السودان أحد عمالقة فنّه الأصيل، لكن إرثه سيبقى خالداً في قلوب محبيه. لقد كان (ملك ملوك الطنبور)، ورغم أن وتر الطنبور قد انقطع بغيابه، إلا أن نغماته ستظل تتردد في سماء السودان، تذكّرنا بزمنٍ جميل، وبفنانٍ لا يشبه أحداً.
رحل صديق أحمد، لكن صوته باقٍ كالنخلة، تظل تُثمر كل عام، وتعطي رطباً وعجوةً وتمودةً وقنديلا لكل من يمر تحتها. لقد رحل، لكن الطنبور سيظل يصدح باسمه، لأن الأوتار قد تنقطع، لكن الأصالة لا تموت.
سلاماً أيها النخلة الشامخة.. لقد سقطت، لكن ثمارك ستطعم الأجيال القادمة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *