محمد الفاتح محمد

محمد الفاتح محمد نور

مستشار قانوني

• تلوح في الأفق كل التباشير التي تحمل معها اقتراب موعد انتهاء الحرب في جميع أنحاء السودان أصبح خبراً وشيكاً وذلك في ظل التفوق الميداني الكبير للقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى المساندة لها على مليشيا آل دقلو الإرهابية.
• هذا التفوق الذي كان ظاهراً للعيان منذ مدة – إلا لمن أبى – أكده تمكن القوات المسلحة من تحرير الخرطوم بعد معركة استراتيجية ناجحة، أفضت إلى انسحاب المليشيا من العاصمة وهي تجرجر كل أذيال الخيبة والنكسة في مشهد تراجيدي وثقته كاميرات الدرون من سماء خزان جبل أولياء، الباب الخلفي الذي عمد الجيش لإبقائه موارباً.
• دوي الانتصارات وصداها السعيد أجبر ذاكرتي على العودة طواعية إلى الوراء، وتحديداً للأيام الأولى لاندلاع المعارك.
• كنت حينها كغيري من الكثيرين تائهاً ما بين التشبث بأمل الانتصار السريع والساحق على المليشيا مرة، واحتمالية انهيار الدولة مرات أخرى في حال مُني الجيش بالهزيمة في حرب ذات طابع مختلف عما اعتادت عليه الجيوش والقوات النظامية. وفي الأثناء ثارت في الذهن كل الأسئلة ببساطتها وتعقيداتها.
• فرضيات عديدة دارت بخلد معظم السودانيين، كل حسب فلسفته ونظرته للأشياء، وقدرته على القراءة والتحليل، وخلفيته بتاريخ الصراعات في السودان والعمل السياسي وتقاطعات الأحزاب بشكل عام.
• عصفت بنا جميعاً تقلبات الأمور في سوح المعارك، وتضارب الأخبار السريعة، ومتغيرات السيطرة والانسحاب والجدلية البيزنطية التي ما برحت مجالس الناس عن من أشعل الحرب وبدأها، والرهان المستمر على إمكانيات الجيش وشعارات المليشيا المكيافلية، التي اتخذتها وسلية للفوز بغاياتها القبيحة.
• كثيرون لم يستبينوا النصح حتى وإن أطل ضحى الغد بجلاء، حاملاً معه قوة الحقيقة وبيانها دون حجاب أو تضليل.
• حقيقة أن الحرب أصبحت أمراً واقعاً بعيداً الأمانيَ
الحالمة بأن لم تندلع من الأساس، حقيقة ألا سبيل للعودة للزمن إلى ما قبل الخامس عشر من إبريل، وحقيقة أنها حرب ضد بقاء إنسان السودان ودولته وحضارته وثقافته وإرثه التليد، حقيقة أنها حرب لم تكن لتستعر لولا تقاطعات يعلمها القاصي والداني، مكنت بعض أقزام الدول التي ترى بقاءها في بقاء السودان حبيساً في قاع الأزمات والحروب والتقسيم أبد الدهر، هو حلف شيطاني متلطخة يده بدماء السودانيين الأحرار، و(كارما) العدالة مصيرهم لا محالة.
• على كل لست هنا لأتحدث عن من ناصر المليشيا في وضح النهار، أو اتخذ موقف الحياد متكأ له، فهذا شأن كل شخص إن عاد للرشد أو لم يعد.
• بالعودة إلى عنوان المقال، ولأكون صادقاً، فقد استلهمته من لقاء عابر منذ قرابة العام ونصف، لقاء حمل في طياته كل صنوف التناقضات، بداية من الكوميديا السوداء وبعض المغالطات والجدليات السرمدية، التي لا تخلو منها مجالس السودانيين، وصولاً إلى القليل من الفلسفة الصائبة. كان هذا اللقاء مع رجل سبعيني لطيف، ذي حكمة بالغة في داره العامره بحي العليا بالرياض، وهو في الحقيقة صهر أحد أصدقائي المقربين.
• دار بين جميع الحاضرين نقاش مستفيض حول الأحداث الجارية حينها في السودان، وأدلى كل منا دلوه، لكن كان من الغرابة بمكان بالنسبة لي أن أسمع عبارة على شاكلة (يا ابني نحن ما بنستحق السودان ده)، كرد حاسم على سؤال مفاده هل يمكن أن يعود السودان بقوة إذا ما انتهت الحرب أياً كانت نتيجتها؟ ربما اعتدنا أن نتجاذب أطراف الحديث عن خيرات السودان وموارده، مقرونة بسلبياتنا كسودانيين، وعجزنا عن النهوض بوطننا، وفشلنا في إنشاء دولة حرية ومؤسسات متطورة أو ما شابه هذا النوع من الأحاديث الرائجة، لكن لأول مرة أشعر بصدمة أننا قد نكون فعلياً كشعب أقل بكثير من إمكانيات الدولة.
• ظلت هذه العبارة في ركن قصي من مخيلتي بصورة دائمة، منتجة أسئلة جانبية ربما ليست بنفس درجة عمق العبارة موضوع المقال، لكنها حتماً تساؤلات وليدة لذات الفكرة والمبدأ والنظرية، والشيء من معدنه لا يستغرب.
• المؤكد أن بلادنا تذخر بكل صنوف الموارد المتنوعة في ظاهر الأرض وباطنها، التي انفتحت لنا في مواسم الخضرة واليباس، خيرات لا ينبغي أن نكون أعجز الناس عن إدراكها واستيعاب مكنونها وجوهرها.
• هذه الموارد تبدو ككنز حبيس في مغارة واقعة بدهليز عظيم، ذي سراديب أبعد من أعمق قرار ممكن، وسر الوصول ومفتاح الشفرة هو إنسان السودان نفسه.
• والحقيقة المجردة بلا تغبيش، أن الكنز هو الشخصية السودانية رغم كل التشوهات التي طالتها، وليس البترول أو الذهب أو الثروة الحيوانية أو الإنتاج أو الزراعة أو غيره مما حبانا به الله من نعم ونفائس.
• إصلاح الخراب الذي طال الإنسان السوداني عبر الحقب والأزمنة، يجب أن يكون غاية أي حكومة وطنية قادمة وأولويتها القصوى.
• الاستثمار الحقيقي في البشر، وتهيئة العقول وتطويرها، وهذا ما منحنا قصب السبق فيما مضى على أقراننا من دول الجوار، التي تتفوق علينا الآن بسنوات ضوئية.
• ربما ستنتهي هذه الحرب في غضون أيام قلائل، لكنها قد تنتج حروباً جديدة إن لم نعِ الدرس الأعظم الذي علمته لنا هذه الحرب، درس قبول الآخر ولو بأقل المستويات، درس ضرورة إرساء قيم المحبة والسلام والوئام والتصالح والتسامح، ونبذ خطاب الكراهية والعنصرية والتفرقة.
• لن تسلم أمة وتنهض وهي غير متوحدة، تمارس التناحر والتضاد والانقسام.
• نمتلك التعدد والتنوع بشتى صوره، فلماذا يكون الاختلاف العرقي والإثني والمذهبي معول هدم وهو أساس البناء والرفعة والعُلا؟!
• وتحضرني هنا قصيدة فنان السودان المثقف الراحل عبد الكريم الكابلي – رحمه الله- التي نثرها بإلقاء مدهش عبر فيديو متداول له، ويقول في مطلعها (لا لمن يوصد في الظلماء للأحرار باب) هذه التحفة الشعرية قدّم من خلالها الكابلي تحليلاً شاملاً لمشكلات السودان التاريخية، وختمها بروشته ووصفة علاج لهذه المشكلات.
• لا أقول إن السودانيين لا يستحقون السودان كما عنونت المقال، لكنني أقول إن الرهان يكمن في إدراك عظمة السودان، وأن نكون أكفاء له قولاً واحداً.
• أن نسمو فوق جراح الماضي وتعقيداته، نمُد كل أيادي المحبة والصدق بعيداً عن الغدر والخيانة والتشويه واغتيال الشخصيات وإطلاق الأحكام على الآخرين خبط عشواء دون هدى، فالحب في حقيقته طاقة جبارة، تجلب معها كل التفوق والسؤدد.
• أن نعمل ما بالوسع لنستحق هذا الوطن الشامخ ذا الإرث التليد والتاريخ الباذخ والحضارة الضاربة في القِدم.
• مصفوفة الحضارة والتاريخ والتراث التي نمتلكها، من البديهي أن يتبعها إشراق في الحاضر، ولمعان ونضرة للمستقبل (اللسع سنينو بعاد).
• وأخيراً… أحبك مكانك صميم الفؤاد.
• وعشت يا سودان.

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *