نهضت للحياة من جديد

143
نظرة يسار سارة عبدالمنعم

سارة عبدالمنعم

كاتب روائية

• ممتلئةٌ هذه الأيّامِ بالفرحِ.

لم يكن وجودُ رجلٍ في قلبي مربطَ الفَرَس، وليس المالُ وحياةُ الترفِ مِمّا امتلكتُه. فعن سيرتي السوداء سرق اللصوصُ بلادي، وكانت هي أثمنَ ما أملك. ولم يكن هناك نجاحٌ جديدٌ في حياتي كي أُصابَ بتُخمةِ الفرح، ولا شيء حولي يدعو لذلك. فقد زهدتُ في أحلامي منذ خمسة أعوامٍ أو يزيد. لكنّني أشعرُ بالفرح.

خِفتُ أن يكون ذلك الشعورُ قد أصابني من أصدقائي المجانين. استحضرتُ وجوهَهم فابتسمتُ. سرحتُ في أسبابٍ أخرى، فالحمقى ليسوا بأصدقائي، بل هم رِفقةُ الروح، دائمًا أنفاسُ حضورهم وإن غابوا، أتنفّسُ بهم أمانًا وراحة.

تذكّرتُ ابنةَ أخي، ابنتي التي ورثت عنّي كلَّ شيء، تلك التي عشتُ معها طفولتي الجديدة. ابتسمتُ، فكلُّ أحاديثها وضَحِكاتُها سعادتي الدائمة. ضحكتُ من ساعةِ أمسٍ بعيد، قبيل الآن بيوم. كنتُ أترنّحُ، والموجُ في خيالي الغريب. لمحْتُ حبيبَ روحي الذي ظللتُ أنتظرُه حتّى أصاب قلبي الملل. كنتُ أُوَسْوِسُ له بأن يمضي بعيدًا عن ذكراه، فلن يعود من يُجيد الغيابَ بكاملِ قسوةِ النسيان؛ يرميك للوَحْدة، لوَهْمٍ تتجرّعه بوجعٍ وخوفٍ من الانتظار.

رأيتُه يتأبّطُ نظراتِ عاشقةٍ جميلة، أكثرَ هندامًا وزينة. شعرُها مُشذَّب، وأيادي الكوافير أجادت فعلَ ذلك. تفحّصتُها كمن يُحتَفى بها، وتنبهتُ بصراخِ قلبي: هي الأجمل… لكنّه حبيبي! أذكر أنّ دموعي نظرتْ إليه طويلًا، كثيرًا. توهّمتُ أنّه سيهرولُ لكفكفةِ أدمعي، وحمايتي من ألمٍ لا تستطيع أقدامُ خافقي حملَه. خارت ملامحي، وهزم حضورُه أعوامَ صبري وانتظار.

تحوّل كلُّ حلمي إلى واقعٍ مرير. لم يكن مُكترثًا لعطري الذي لم أستبدلْه منذ أعوام، منذ أن رماه على قميصي، فصرتُ زُليخاه، وأخرستُ نسوةَ المدينة بأن عطري هو من يردّ البصرَ والرّوح. فهو من تجمّلني اختياراتُه. وما زال دمعي يهطل كلّما انتظرتُ لحظةَ هرولتِه نحوي، كلّما ازداد قلبي نحيبًا، وبكيتُ وبكيتُ. ونظرتُ إليه، وظلّ ينظر نحوها، كأنّه يستشيرُ جلالتَها في أمرِ عناقٍ ومواساة، أو ربّما يُشيحُ وجهه عن عظيمِ حزنٍ ارتضاه لي.

وحتْمًا كان يُخبر قلبي بالمضيّ قُدُمًا، فهو الآن في بلاطِ جميلتِه الهادئة دون ضحكتي المتقاطعة علُوًّا وكِتمانًا، عزيزةُ قلبه التي استحوذَ هندامُها على نظراته، ونال شعرُها من كفّه طَبطبةً وسلامًا. ثارت خُصَلاتي أكثر، صارت كحالي : منكوشةً في كلّ الاتجاهات.

استعدتُ لياقتي من الانتظار والحزن، حين سألتُ نفسي: هل سننتظر بعدُ؟ وحتى متى؟ مددتُ إليهما ابتسامتي، ولم يستطع التمهّل، لوّح بكفّه صائحًا بأنّ هذه الجميلةَ حبيبتُه. لم أكن بعيدةً جدًّا عن صوته العالي. كان يمكنه أن يهمس، فعيبٌ أن نُلقي بالألم علنًا وعنوةً على من أحببناهم يومًا. ولم تكن الأمطارُ هاطلة، فلا داعي لهذا الصراخ. فقد عرفْتُها من عينيه، فعلامَ التصريح؟

ولم أتوانَ عن حبّ لحظاتي منذ تلك اللحظة، حين اقتربتُ منه وهمستُ في أذنه أنّي أيضًا عاشقة. ثم التفتُّ إلى نفسي، وطمأنتُها أنّي لا أكذب. فمن سواه سأحبّ دون انتظار؟ لم يُرضِ هذا الصدقُ داخلي، فعزّةُ نفسي لن تقبل بحبٍّ أكنّهُ إليها عِوضًا عن حبِّ رجلٍ قلبُه خذلني.

اتّسعت ابتسامتي وامتلأتُ بالفرح، حين وجدتُ كفَّ أمي فوق رأسي، وشفتيها تتلو التّحصين وتُقبّل جبيني المتعرّق. نهضتُ للحياة من جديد، وأشعرُ بالفرح.

قصصتُ على صديقي ذلك، فقال لي: إنّ الأحلامَ ليست بهذا الحجم من طولِ زمنٍ، وإنّي قصيرةُ النوم على ذلك. وبما أنّي لستُ بكامل العقل، يحدث أن تكون حالتي جنونية. ولولا تدخّل أمي، لكنتُ بقليلٍ أُمشّط الشارعَ بالحديث علنًا مع نفسي.

وقبل أن أُخرسه بسؤالٍ يدحرُ تُهمتَه عنّي، صاح بأنّ تعرّق جبيني وإرهاق جسدي يدلاّن تمامًا على أنّني وأفكاري أثقلُ على هذا الجسد من تحمّلٍ واحتمال. وقريبًا سيشلّ الخيالُ واقعي، وسأصبح الآنسةَ الحالمةَ في أرضِ واقعٍ مُغاير.

ابتسمتُ، فضحك صديقي، هامسًا بأنّ أفضل ما نسعدُ به هو محاولاتُنا لإسعاد ذواتنا، ولو في الخيال. فنحن لن نعيش إلى الأبد، ويمكننا أن نفرح.

فهمستُ : لقد كانت تلك الفتاةُ بصحبةِ حبيبِ خيالاتي جميلةً، تُشبهني بهيئةٍ أجمل. وما زلتُ أضحكُ كلّما تذكّرتُ أنّ صديقي دسَّ بكفّي بضعَ جُنَيْهات، مُهرولًا يُشير لي بأنّ الكوافير في هذا الشارع قريب، هنا عند الناصية… حيث يمكنني أن أسعدَ نفسي بشَعرٍ مُشذّب، وربّما بخيالٍ جديد.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *