نحو استراتيجية وطنية مرنة وشاملة للتعليم الرقمي في السودان

40
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

مقدمة

• يشهد العالم اليوم تسارعاً هائلاً في تبنّي تقنيات التعليم الرقمي، التي تحوّل الفصول الدراسية التقليدية إلى بيئات تفاعلية غنية بالوسائط المتعددة وأدوات التعاون عن بُعد. وفي ظل هذا التحول، يواجه السودان تحديات ملموسة تتعلق بتفاوت مستويات البنية التحتية وشح الموارد التقنية في العديد من المناطق، إلى جانب حاجة الكوادر التربوية إلى اكتساب مهارات رقمية متطورة.

تمثل هذه الاستراتيجية الوطنية نقطة انطلاق شاملة تُعنى بربط وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي مع الجامعات ومدارس القطاع الخاص والمجتمع المدني والقطاع الخاص، بهدف بناء منظومة تعليمية رقمية قادرة على تكييف نفسها مع الظروف المحلية. وتعتمد على ثلاثة محاور رئيسية:

1. البنية التحتية والتقنيات: تعزيز الانتشار الشبكي وتوفير أجهزة تعليمية بأسعار مدعومة.

2. المحتوى والتصميم التعليمي: إنتاج موارد رقمية تفاعلية محليّة الصنع وتعزيز الموارد التعليمية المفتوحة.

3. بناء القدرات والاستدامة: تأهيل المعلمين وإرساء آليات تمويل مستدامة تضمن تجديد الموارد وتحسين الجودة باستمرار.

من خلال هذه المحاور، نسعى لتحقيق تعليم مرن يتجاوز الحواجز الجغرافية والمعرفية، ويُمكّن كل طالب من الوصول إلى فرص التعلم بغض النظر عن موقعه أو قدراته التقنية.

1. تشكيل الهيئة التنسيقية الوطنية للتعليم الرقمي

أولاً، ينبغي إنشاء هيئة عليا تضم ممثلين من الجهات التالية:

• وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي لتوفير الدعم السياسي والمؤسسي.

• خبراء في تكنولوجيا التعليم وتصميم المحتوى الرقمي؛ لضمان جودة المادة التعليمية.

• ممثلين عن الجامعات والمدارس الخاصة والحكومية؛ لضمان تنوع وجهات النظر وملاءمة الحلول.

• شركات الاتصالات والتقنية؛ لتأمين الشراكات الفنية والموارد التقنية.

• أفراد من المجتمع المدني ومنظمات غير حكومية ترتبط بقطاع التعليم؛ لضمان شفافية الإجراءات ومشاركة المجتمعات المستهدَفة.

تجتمع هذه الهيئة شهرياً لوضع جداول زمنية قابلة للقياس، وتقييم مدى تحقيق الأهداف المرحلية، مع رفع تقارير تنفيذية كل ثلاثة أشهر إلى مجلس الوزراء.

2. تحليل الواقع وتقييم الاحتياجات بدقة

قبل إطلاق أي مبادرة، يجب إجراء مسح ميداني شامل يشمل:

• تقييم التغطية الشبكية والاتصال بالإنترنت في جميع الولايات.

• جرد شامل لأجهزة الحاسوب واللوحات الإلكترونية المتوفرة في المدارس والجامعات.

• استبيانات داخلية لقياس مستوى مهارات المعلمين والمحاضرين والطلاب في استخدام الأدوات الرقمية.

• مراجعة المحتوى التعليمي الرقمي القائم وتحديد الفجوات الرئيسية.

كما يُنصح بتطبيق “دراسة حالة” نموذجية في ولاية أو ولايتين (مثل الخرطوم وكسلا) لاستكشاف التحديات والحلول في بيئات حضرية وأخرى ريفية، ثم تعميم الدروس المستفادة.

3. تطوير البنية التحتية التقنية الشاملة

لضمان استمرارية الخدمة الرقمية:

• التعاون مع شركات الاتصالات لتوسيع شبكات الجيل الرابع وربط القرى بالألياف الضوئية، مع إعطاء أولوية للمناطق ذات الربط الضعيف.

• إنشاء “حافلات رقمية” مجهزة بأجهزة حاسوب وأقمار صناعية متنقلة للتجوّل بين المدارس النائية أسبوعياً، كما اعتمدت رواندا “مركز الابتكار الرقمي المتنقل” لتغطية أكثر من 200 مدرسة في المناطق الريفية.

• توفير حزم دعم تقني على شكل أجهزة لوحية مخفضة السعر للطلاب المحتاجين، عبر شراكة مع مصنعي الإلكترونيات وتشجيع نموذج الإقراض منخفض التكلفة كما في تجربة جنوب إفريقيا مع مبادرة Siyavula.

• تحديث شبكات الكهرباء وضمان مولّدات احتياطية للمدارس في المناطق التي تشهد انقطاعات متكررة.

4. إنتاج محتوى تفاعلي محلي الصنع

يرتبط نجاح التعليم الرقمي بجودة المحتوى، لذا يجب:

• تشكيل وحدات إنتاجية تضم أكاديميين، مصممين تربويين، ومهندسي نظم؛ لإعداد فيديوهات قصيرة، ومحاكاة ثلاثية الأبعاد، وكتب إلكترونية تفاعلية.

• اعتماد الموارد التعليمية المفتوحة (OER) وإتاحتها بلغات محلية مثل العربية والإنجليزية واللهجات السودانية، مع تشجيع المعلمين على تعديلها وإعادة نشرها كما فعلت منصة “إدراك” في الأردن التي وفرت أكثر من 2000 كورس رقمي مجاني.

• دمج قصص نجاح محلية، مثل مشاريع الزراعة المستدامة في دارفور أو مبادرات الصحة المجتمعية في كردفان، لإضفاء بعد واقعي وجاذبية أكبر.

5. بناء قدرات الكوادر التربوية

المعلم محور ناجح أي استراتيجية رقمية، لذلك:

• تصميم برامج تدريبية متدرجة تشمل: أساسيات تكنولوجيا التعليم، تصميم وحدات تعلم إلكتروني، وإدارة الفصول الافتراضية.

• إنشاء “منصة سفراء رقميين” بحيث يتم اختيار معلم واحد على الأقل في كل مدرسة أو كلية ليكون مرجعاً للزملاء، ويشارك بانتظام في ورش مُعمقة. هذه التجربة نجحت في الإمارات عبر برنامج “المدرس الرقمي” التابع لمدرسة حمدان بن محمد الذكية.

• ربط الترقية والامتيازات الوظيفية بحصول المعلمين على شهادات معتمدة تؤكد إتقانهم للمهارات الرقمية المطلوبة.

6. الإطار التشريعي والتنظيمي وحوكمة الجودة

لتنظيم المشهد وضمان جودته:

• إصدار لوائح تحدد معايير اعتماد المحتوى الرقمي، وآليات مراقبة الامتحانات عن بُعد باستخدام التوقيع الإلكتروني وتقنيات التعرف على الوجه، كما نصت عليه استراتيجية الهند الرقمية للتعليم SWAYAM.

• تكامل الوثائق الرسمية للمؤسسات مع نظام إدارة التعلم (SIS)، بما يضمن تحديث السجلات الأكاديمية والإدارية تلقائياً.

• وضع سياسة واضحة لحماية البيانات الشخصية للطلاب والمعلمين، مع الالتزام بمعايير الخصوصية والأمن السيبراني.

7. نماذج التمويل وضمان الاستدامة

تتنوع مصادر التمويل على النحو الآتي:

• منح حكومية من صندوق التعليم القومي تخصص نسبة ثابتة لدعم البنية التحتية الرقمية.

• شراكات مع القطاع الخاص تمنح خصومات على الأجهزة والاشتراكات التقنية مقابل الاستفادة المجتمعية.

• تقديم مشاريع ابتكار رقمي في التعليم بوصفها مبادرات قابلة للحصول على منح من وكالات الأمم المتحدة والبنك الدولي.

• استحداث “صندوق ابتكار رقمي” صغير، يمكن للجامعات والمدارس التقدم إليه لتمويل مشاريع خاصة تعزز التعلم الرقمي، مستلهماً نموذج مالايا في ماليزيا (FrogVLE).

8. آليات الرصد والتقييم المستمر

لضمان تحقيق الأهداف:

• تحديد مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) تشمل: نسبة المدارس المتصلة بالإنترنت، وعدد وحدات التعلم الرقمية المطورة، ومستوى التفاعل على المنصات.

• عمل مسح سنوي لقياس رضا المستفيدين (طلاباً ومعلمين وأولياء أمور)، وتحليل تقارير الاستخدام لاكتشاف الميول والاحتياجات الجديدة.

• عقد مؤتمر سنوي للتعليم الرقمي في السودان يشارك فيه جميع الشركاء لعرض الإنجازات ومشاركة الدروس المستفادة، على غرار القمة الآسيوية للتعلم الرقمي في سنغافورة.

9. آليات الحوكمة والتنسيق الدورية

تعتمد نجاح الاستراتيجية على التنسيق الفعّال:

• اجتماعات ربع سنوية للهيئة التنسيقية الوطنية، واجتماعات شهرية للفرق الفنية في كل ولاية.

• بوابة رقمية مركزية تُتاح لجميع المعنيين لتحميل الخطط والتقارير ومشاركة الموارد والخبرات.

• تعيين منسق رقمي في كل مؤسسة تعليمية يكون حلقة وصل بين الهيئة وأعضاء الهيئة الأكاديمية والإدارية.

10. خطط الطوارئ واستمرارية العملية التعليمية

للتعامل مع الأزمات المختلفة:

• توفير محتوى غير متصل بالشبكة على أقراص USB وبطاقات ذاكرة تُوزَّع على الطلاب والمدارس قبل مواسم العطلات أو في الفترات المتوقعة للانقطاع، كما اعتمدت الهند نظام توزيع الدروس على الهواتف المحمولة عبر الرسائل الصوتية (IVR).

• بث الدروس عبر إذاعات محلية أو قنوات تلفزيونية تعليمية ريثما تعود الخدمات الرقمية كما في القنوات التعلمية في جنوب أفريقيا، حيث تبث هذه القنوات دروساً منهجية للطلاب في مختلف المراحل التعليمية.

• تدريب المعلمين على استخدام تقنيات بديلة بسيطة مثل الرسائل القصيرة (SMS) لتوجيه المهام وتلقي الاستفسارات من الطلاب.

11. دروس مستفادة من التجارب الإقليمية والدولية

• من إفريقيا: استفادت كينيا من منصة eLimu لتقديم مواد مقطعّة قصيرة تفاعلية لمراحل التعليم الأساسي، بينما وفرت جنوب إفريقيا عبر Siyavula كتباً إلكترونية مفتوحة ومتنوعة للرياضيات والعلوم.

• من العالم العربي: أطلقت “إدراك” في الأردن وتحالف “المكتبة الرقمية السعودية” موارد مجانية باللغة العربية، واستثمرت الإمارات في التعليم عن بُعد عبر جامعة حمدان الذكية، مما عزّز مرونة التعلم أثناء جائحة كوفيد-19.

• من آسيا: أطلقت الهند منصة SWAYAM لتوحيد دورات الجامعات الحكومية والخاصة، وحققت كوريا الجنوبية نجاحاً كبيراً مع قناة EBS التلفزيونية التعليميّة، بينما أوجدت سنغافورة بيئة تعليمية ذكية  FutureSchools تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتخصيص المناهج.

يمكن للسودان الاستفادة من هذه النماذج عبر تبنّي حلول مرنة ومفتوحة المصدر، وتكييفها مع قدرات البنية التحتية والموارد المحلية، مع تبنّي منهجية “التعلم التجريبي” Pilot ثم التوسع التدريجي.

إنّ بناء منظومة تعليم رقمي ناجحة في السودان يتطلب تكاتف الجهود بين الجهات الحكومية والأكاديمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، مع الانطلاق من فهم عميق للواقع المحلي وإسناد التجربة بدراسات حالة دقيقة. وستحقق هذه الاستراتيجية، عند تطبيقها المنهجي، الآتي:

• تضييق فجوة الوصول إلى التعليم في المناطق النائية، عبر “الحافلات الرقمية” والمختبرات المتنقلة ومواد غير متصلة بالإنترنت.

• رفع كفاءة الكوادر التربوية من خلال برامج تدريبية اعتُمِدت فيها المنهجيات العالمية (مثل “سفراء رقميين” في الإمارات) وتوفير شهادات ترقية وظيفية للمعلمين المهرة.

• ضمان استدامة النمو التقني عبر تأسيس صندوق وطني للابتكار الرقمي في التعليم، يعتمد على شراكات مع القطاع الخاص والمنظمات الدولية.

• تعزيز جودة المحتوى بإنتاج موارد تفاعلية محلية الصنع وربطها بالتراث والثقافة السودانية، مستفيدةً من تجربة “إدراك” الأردنية و“SWAYAM” الهندية.

من خلال هذه الرؤية المتكاملة، سينهض التعليم الرقمي في السودان ليصبح دعامة للتنمية المستدامة، ويُمكّن أجيال المستقبل من اكتساب المهارات والمعارف التي يحتاجونها للنجاح في اقتصاد المعرفة العالمي. تمثل هذه الاستراتيجية الوطنية للتعليم الرقمي خارطة طريق متكاملة، تجمع بين البُعد التقني والتربوي والتنظيمي، وتراعي خصوصيات السياق السوداني. عبر تضافر الجهود بين وزارتَي التربية والتعليم والتعليم العالي والقطاع الخاص والمجتمع المدني، والاستفادة من الدروس والتجارب الدولية، يمكن تحقيق نقلة نوعية في جودة التعليم وشموليته، والوصول إلى الطلاب في أعمق بقاع السودان. سيؤسس هذا النهج لثقافة تعليمية رقمية مستدامة، تسهم في تنمية الكفاءات البشرية، وتجهّز الأجيال القادمة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بثقة واقتدار.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *