
د. خالد مصطفى إسماعيل
كاتب صحفي
• من فرط حبهم للقرآن (يزرعون بالقرآن)، فيقرأون القرآن حتى وهم في أثناء عملهم اليومي في الزراعة، فكان الواحد منهم عندما يستقطع مساحة من الأرض ليزرعها أو يحرثها خلال اليوم، يقول: (المساحة دي بتاخد مني جزء أو جزأين من القرآن)، أي هذه المساحة سأكمل جزءاً أو جزأين من القرآن حتى انتهى من زراعتها أو حرثها. هكذا كانوا يقيسون المساحات.
فطيلة ساعات العمل يرتل المزارع القرآن وبالترتيب، يبدأ جزءاً بعد جزء إلى أن ينتهي دوام العمل.
والناس لم يصلوا إلى هذه المرحلة عن طريق المصادفة؛ بل كان نتيجة عمل دؤوب، وصحبة طويلة مع القرآن، والعلم، وأهل الله، فكانوا يحبون القرآن، ويحبون من هاجر إليهم حاملاً القرآن، فيستقبلونه بالحفاوة والترحاب وكأني بهم يستقبلونه بالدفوف والأناشيد كما استقبل الرسول عند دخوله المدينة المنورة.
وبمجرد وصول الشيخ حامل القرآن إلى المملكة يتم تكريمه، ويحدَّد له المكان الذي يعمل بالدعوة فيه، ثم يعطى مساحة من الأرض ليقيم فيها مسيده ويوقد نار القرآن، ويُبنى له منزل خاص به، ويُعطى مساحه أخرى من الأرض ليزرعها ليطعم نفسه وأهله وتلاميذه، ويعملون له مجاناً في زراعته عن طريق النفير، ليتفرغ هو لدراستهم وتعليمهم القرآن.
وبعد أن يستقر به الحال يزوِّجونه، ويصبح جزءاً من المجتمع، وأحد أفراده الفاعلين.
والأهم من ذلك يُعطى الشيخ (حصانة) شاملة؛ تعرف ب (الجاه)، جمعها (جاهات)، فيصدر المك مرسوماً يعفي فيه الشيخ من أي رسوم أو ضرائب، ويمنع فيه أياً من رجال المملكة أو الجنود من القبض على الشيخ أو أبنائه تحت أي ظرف من الظروف، بل أكثر من ذلك، إذا ارتكب أي شخص من أفراد المجتمع جرماً ودخل في حمى الشيخ أو داره، أو مسيده، لا يلاحقه المك أو قضاته أو جنوده؛ بل يترك للشيخ ليحاسبه بالطريقة التي يحددها هو، أو يعفيه إن رأى في العفو مصلحة وعدلاً.
وهناك صيغ مكتوبة من (الجاهات) موجودة في المملكة كوثائق، نورد واحدة منها هنا على سبيل المثال، وهي وثيقة (جاه) أصدرها المك إسماعيل ود المك محمد للفقيه الحبيب ود حماد، ونصه كالآتي:
((بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، هذا جاهاً متمماً من المك إسماعيل ولد محمد إلى الفقيه الحبيب ولد حماد وأولاده، وأولاد أولاده، وأولاد إخوانه، وأولاد إخواته، وجميع من يتعلق بهم، لا عليهم سبلة، ولا طلبة، ولا دم، ولا سخرة، ولا دية، أبداً.
جاهاً كاملاً، اليوم ٢٥ ذي الحجة ١١٢٦ هجرية.
المك إسماعيل ولد المك محمد
الشهود هم الأرابيب)).
والأرابيب المذكورون شهوداً في الوثيقة هم (أبناء بنات المكوك)، ولهم مجلس خاص في المملكة يسمَّى مجلس الأرابيب، ولهذا المجلس مهمات خاصة.
هذه الوثيقة مضى عليها حتى الآن ٣٢١ سنة
(١١٢٦ – ١٤٤٧هـ). «لاحظوا تاريخ الوثيقة».
هذه المعاملة الكريمة جعلت الشيوخ يتقاطرون إلى تقلي من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويعلموا الناس القرآن وأمور الدين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فأحياناً لا ينتظر المكوك رجال الدين للمجيء إليهم؛ بل هم الذين يذهبون إليهم في أماكنهم، ويجلبون الحفظة لتعليم الناس القرآن. ويذكر أن أحد مكوك تقلي في رحلة عودته من الحج زار خلاوي المجاذيب، وطلب منهم إعطاءه حفظة لتعليم الناس القرآن، فأعطوه عشرة من الحفظة جاءوا معه إلى تقلي، وأكرمهم كما أكرم الذين من قبلهم، ومكثوا واستقروا في تقلي يعلِّمون الناس القرآن والفقه وأمور الدين.
وهناك من الشيوخ من كتب مصحفاً كاملاً بخط يده، ومنهم من كتب أكثر من نسخة واحدة، وحتى الآن توجد مصاحف بخط اليد يحتفظ بها بعض الناس.
ونتيجة لذلك، اكتسب الشيوخ ورجال الدين مكانة خاصة وتقديراً في المجتمع، فكان الشيخ في المنطقة أو القرية هو الأستاذ الذي يعلِّم الناس القرآن، ويفقههم في أمور دينهم، وهو الإمام الذي يصلي بالناس كل الصلوات، وهو المأذون الذي يقوم بعمليات العقد، وأحياناً يعمل طبيباً لمعالجة بعض الأمراض، وهو الذي يقوم بعملية (الحواطة) للبلد لتجنيبها الشرور، وغيرها من الأعمال التي يقوم بها الشيوخ، لذلك اكتسبوا مكانة خاصة.
هذه لمحات عابرة عن كيف كان الناس يعيشون ويفكرون ويقدرون ويديرون ويدبرون أمور دينهم ودنياهم، وقد تركوا لنا أثراً طيباً، وسيرة حسنة، وقطفنا ثمار أعمالهم الجليلة احتراماً نجده كلما ذكرنا أننا ننتمي إليهم.
رحمهم الله رحمة واسعة، وجعل البركة في ذرياتهم، وتلاميذهم، وأرجو أن يتخذوهم قدوة.
والسلام.
شارك المقال