من الفوضى إلى التنظيم: كيف يمكن للسودان تسويق ذهبه عالمياً بآليات حديثة؟
Admin 5 مايو، 2025 113
محمد كمير
كاتب صحفي
• يُشكّل الذهب موردًا استراتيجيًا حاسمًا في الاقتصاد السوداني، لكنه لا يزال يُسوَّق بطرق تقليدية وغير منظمة، ما يحرمه من عائدات ضخمة وفرص استثمارية حقيقية. على الصعيد العالمي، تُدار تجارة الذهب عبر آليات معقدة ومنظمة، تبدأ من السوق الفورية التي يتم فيها بيع وشراء الذهب للتسليم الفوري أو خلال يومين، وتُستخدم لتحديد السعر العالمي اليومي للذهب. أما العقود الآجلة، فهي اتفاقيات لبيع أو شراء كمية معينة من الذهب في وقت لاحق بسعر محدد مسبقًا، وتُستخدم للتحوط من تقلبات الأسعار أو للمضاربة. إلى جانب ذلك، توجد عقود الخيارات التي تمنح الحق، دون إلزام، في شراء أو بيع الذهب خلال فترة زمنية معينة، وعقود صناديق المؤشرات الذهبية التي تتيح للمستثمرين شراء حصص في الذهب دون امتلاكه فعليًا. يتم تداول هذه العقود في بورصات عالمية متخصصة مثل بورصة لندن التي تحدد السعر المرجعي مرتين يوميًا، وبورصة نيويورك (COMEX) التي تُعد مركزًا ضخمًا للعقود الآجلة، وبورصة شنغهاي التي تربط السوق الآسيوية مباشرةً بالذهب عبر اليوان.
في السودان، وعلى الرغم من أن إنتاج الذهب بلغ 64 طنًا في عام 2024، وبلغت قيمة الصادرات الرسمية نحو 1.55 مليار دولار، فإن كميات هائلة من الذهب تُهرَّب سنويًا خارج القنوات الرسمية، ويُقدّر أن أكثر من 70% من الذهب السوداني ينتهي في الإمارات بعيدًا عن رقابة الدولة. يُباع هذا الذهب غالبًا عبر سماسرة محليين وشبكات تهريب، بأسعار تقل كثيرًا عن القيمة السوقية العالمية، ما يؤدي إلى فقدان الدولة مليارات الدولارات سنويًا. ويرجع ذلك إلى غياب التنظيم في عمليات الوساطة، إذ تُحتكر التجارة عبر قنوات فردية غير مرخصة، دون إطار قانوني أو سوق واضحة.
الفرق الجوهري بين طرق البيع العالمية والوضع السوداني يكمن في التنظيم والشفافية. في العالم، تُدار كل صفقة ذهب عبر عقود واضحة، مؤمنة قانونيًا، ومرتبطة ببورصات معترف بها، ويتم تسجيل الكميات والأسعار والتحويلات. أما في السودان، فإن أغلب الذهب يُباع وفق تفاهمات شخصية بين المنتج والوسيط أو المُهرّب، دون وجود سجل مركزي أو تسعير عادل. وهنا تبرز الفرصة الذهبية للسودان: التحول من بيع الذهب كـ”معدن خام” عبر الوسطاء إلى تسويقه كـ”أصل مالي” من خلال عقود منظمة في بورصة معترف بها.
لكي يتحقق هذا التحول، لا بد من إعادة هيكلة كاملة لسوق الذهب في السودان، بدءًا بإنشاء بورصة وطنية لتداول الذهب متصلة بأنظمة التسعير العالمية، وتمكين الشركات السودانية الخاصة، وكذلك رجال الأعمال الأجانب، من الدخول في سوق تسويق الذهب عبر رخص معتمدة. يجب أن تكون هناك هيئة تنظيمية تُشرف على تسجيل العقود وتحديد الأسعار وفق السوق العالمي، وتمنح التراخيص لشركات التسويق والتصدير وفق معايير واضحة، بما يضمن الجودة والشفافية. ويمكن كذلك تنظيم وساطة الذهب محليًا بإنشاء سجل وطني للوسطاء، وتدريبهم واعتمادهم رسميًا، ليكونوا وكلاء معتمدين يربطون المنتج السوداني بالأسواق العالمية بأسعار عادلة وعقود موثوقة.
فتح الباب أمام رجال الأعمال السودانيين لتأسيس شركات متخصصة في الوساطة والتسويق، مع تقديم حوافز للاستثمار الأجنبي في هذا القطاع، كفيل بتوسيع السوق ورفع قيمة العائدات، وتقليل التهريب، وزيادة احتياطي البنك المركزي من الذهب. فبدلاً من الاعتماد على السمسرة العشوائية التي تُضعف الاقتصاد وتُفقد الثقة في السوق، يمكن للسودان أن يبني نموذجًا يحتذى في إفريقيا لتسويق الذهب، يكون قائمًا على التنافسية والنزاهة والانفتاح على العالم. إن الانتقال من الفوضى إلى النظام هو الخطوة الحاسمة التي يجب أن تُتخذ الآن، قبل أن تضيع الفرصة ويستمر الذهب السوداني في النزيف خارج حدوده بلا مقابل حقيقي.
شارك المقال