من التلقين إلى التفكير النقدي: خارطة طريق لإحياء التعليم العالي في السودان
Admin 14 يونيو، 2025 62
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
مقدمة
• في ظل التحديات المعقدة التي يواجهها السودان، لم يعد إصلاح التعليم العالي خيارًا مؤجلًا، بل بات ضرورة وطنية ملحّة. فالتعليم لا يقتصر على المناهج والامتحانات، بل هو مشروع حضاري وطني شامل، يبدأ من فلسفة التدريس ذاتها. ومن هنا، لا بدّ من طرح تساؤلات أساسية: كيف نُعلِّم؟ ولماذا نُعلِّم؟ وما نوع الخريج الذي نريد إنتاجه؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تستدعي تحولًا جذريًا من نمط التعليم القائم على التلقين، إلى نمط تعليمي إنساني تفاعلي، يُمكِّن الطالب من أن يكون فاعلًا في مجتمعه، ومشاركًا في بناء مستقبله.
ومن بين أبرز أدوات هذا التحول، يبرز نهج التعلم القائم على المشكلات (Problem-Based Learning – PBL)، الذي يمثل فلسفة تدريس حديثة تعزز التفكير النقدي، والبحث الذاتي، والعمل الجماعي، وربط المعرفة بسياقها المجتمعي. ولأن المشكلات المجتمعية في السودان حقيقية وملحّة، فإن هذا النهج يمنح الطالب فرصة للمساهمة في الحلول، لا فقط في اجتياز الامتحانات.
ما هي فلسفة التدريس؟
فلسفة التدريس هي الإطار الذي يوجه طريقة تفكير المعلم، وتصميمه المقررات والمناهج، وتعامله مع الطلاب والمحتوى. وهي تعكس موقفًا من الإنسان، ومن المعرفة، ومن دور التعليم في بناء الفرد والمجتمع. ففي الفلسفات التربوية الحديثة، يُنظر إلى الطالب كمشارك نشط في بناء المعرفة، لا كمجرد مستقبل سلبي للمعلومات. أما المعلم، فيصبح مرشدًا وميسِّرًا للحوار، لا ناقلًا للمحتوى فقط.
بينما في الفلسفات التقليدية، تهيمن سلطة المعلم، وتُختزل المعرفة في كتب جامدة، ويُقاس النجاح بقدرة الطالب على الحفظ لا على التحليل أو الإبداع. وينتج عن ذلك خريج غير مؤهل للمساهمة الفاعلة في معالجة التحديات المعاصرة مثل البطالة، النزوح، وأزمات الصحة العامة.
الواقع الحالي في الجامعات السودانية
تعاني معظم الجامعات السودانية من هيمنة النموذج التقليدي في التدريس، والذي يعتمد على المحاضرة النظرية والامتحان النهائي كوسيلة وحيدة للتقييم. ونستعرض فيما يلي بعض الأمثلة الواقعية من الكليات:
كليات الطب:
في جامعات مثل الخرطوم أو الجزيرة، يُفصل الطلاب لسنوات بين العلوم النظرية والسريرية. يعتمد التدريس على محاضرات مكثفة في التشريح والكيمياء الحيوية والفسيولوجيا، دون دمج كافٍ بين المعلومات النظرية والحالات السريرية الواقعية. تبدأ الممارسة العملية عادة في السنة الثالثة، ما يؤدي إلى ضعف الربط بين الدراسة والتطبيق. كما أن منهج التقييم يفتقر إلى مكونات تعكس قدرة الطالب على اتخاذ القرار في حالات واقعية.
كليات الهندسة:
في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، تتركز المقررات على الجوانب النظرية والمعادلات، ويقل التركيز على المشاريع التطبيقية والتصميمات المرتبطة بالسياق المحلي. لا يحصل الطلاب إلا على فرص محدودة لتطبيق مهاراتهم على تحديات حقيقية، وغالبًا ما يُترك المشروع العملي لنهاية البرنامج. في حين أن قضايا مثل التوسع العمراني العشوائي أو مشكلات البنية التحتية الريفية يمكن أن تكون فرصًا تعليمية ممتازة.
كليات الاقتصاد والإدارة:
في جامعات مثل النيلين وبحر الغزال، تدرّس العلوم الاقتصادية من خلال نظريات تقليدية، دون تحليل فعلي للاقتصاد السوداني، أو تدريب الطلاب على تصميم خطط عمل واقعية في بيئات متغيرة أو هشة. نادرًا ما يتعرض الطلاب لمهمات تحليل بيانات حقيقية أو تصميم دراسات جدوى لمشاريع صغيرة تناسب السوق المحلي.
ما هو التعلّم القائم على المشكلات (PBL)
هو نهج تعليمي يبدأ بعرض «مشكلة مفتوحة» على الطلاب، مستمدة من الحياة الواقعية. يُطلب منهم العمل في مجموعات لتحليل المشكلة، وتحديد ما يحتاجونه من معلومات لحلها، ثم جمع البيانات وتقديم حلول مبنية على الأدلة.
مميزات PBL:
• يبدأ بالسؤال وليس بالإجابة.
• يعزز التعاون والتعلم الذاتي.
• يُنمّي التفكير النقدي ومهارات التواصل.
• يربط التعلم بسياق المجتمع والواقع المعاش.
• يحوّل الطالب من متلقٍّ إلى باحث ومشارك فاعل في عملية التعليم.
تجارب ناجحة لـ PBL:
من كندا: تجربة كلية الطب في جامعة ماكماستر مع التعلم القائم على المشكلات
بدأت كلية الطب بجامعة ماكماستر بكندا في تطبيق PBL في أواخر الستينيات (1969)، كنقلة نوعية من التعليم التقليدي القائم على المحاضرات إلى التعليم القائم على المشكلات، إلى نظام تفاعلي يقوده الطالب من خلال مناقشة مشكلات سريرية واقعية.
الفكرة الجوهرية هي: «ابدأ بالمشكلة، ودع الطالب يبحث ويتعلم ليحلها».
الأساتذة لم يعودوا مصدر المعرفة الوحيد، بل أصبحوا مُيسِّرين للنقاش والتفكير.
شهدت التجربة الكثير من النقاشات داخل الكلية حول مدى التزامهم بـ «PBL الأصيل» مقارنة بنُسخ معدلة أقل فاعلية.
أعضاء هيئة التدريس شاركوا في مراجعة مستمرة للمناهج، بناءً على تقييمات الطلاب، والنتائج الأكاديمية، ومقارنتها بطرق التعليم التقليدية.
أظهرت الدراسات أن PBL لا يؤدي دائمًا إلى نتائج أعلى في الامتحانات الموحدة، لكنه يُنتج طلابًا أكثر رضا، وأكثر قدرة على التفكير النقدي والعمل الجماعي.
ابتكرت كلية الطب بجامعة ماكماستر أساليب تقييم تتماشى مع فلسفة PBL، منها ما يُعرف بـ مؤشر التقدم الشخصي (Personal Progress Index)، وهو اختبار تكويني دوري يساعد الطالب على تتبع نموه المعرفي، بدلاً من الاعتماد على امتحان نهائي فقط.
كما تم إدخال التقييم الذاتي وتقييم الأقران كأدوات أساسية في عملية التعلم.
من إفريقيا: كلية الطب بجامعة بتسوانا نموذجًا
في عام 2009، أسست جامعة بتسوانا أول كلية طب في البلاد، وحينها تم تعييني بقسم العلوم الطبية الحيوية بكلية الطب. حينها أطلقت كلية الطب بجامعة بتسوانا برنامجًا تعليميًا متكاملًا، يعتمد على نهج PBL منذ السنة الأولى. كانت الفكرة قائمة على أن الطالب لا يتلقى المحاضرات فقط، بل يبدأ بإيجاد حلول لمشكلات صحية واقعية تُستقى من البيئة المحلية مثل الملاريا، الإيدز، أو سوء التغذية.
وكنت ضمن هيئة التدريس للسنتين الأولى والثانية. حيث تم تقسيم الطلاب إلى مجموعات صغيرة، يُكلف كل منها بدراسة مشكلة صحية محددة، وتحليلها من زوايا متعددة: بيئية، اجتماعية، وإكلينيكية. تلقينا نحن أعضاء هيئة التدريس تدريبًا خاصًا على التيسير بدلًا من الإلقاء، كما تمت إعادة هيكلة الجدول الزمني ليشمل وقتًا مخصصًا للحوار والمراجعة الذاتية.
النتائج بعد عامين:
• تحسن أداء الطلاب في الامتحانات السريرية والتطبيقية.
• زيادة قدرة الطلاب على تحليل السياقات الصحية المعقدة.
• نمو ملحوظ في مهارات التواصل والعمل الجماعي.
• تكامل أوثق بين الكلية والمجتمع المحلي، مما عزز ثقة الناس في المؤسسة التعليمية.
أمثلة تطبيقية واقعية في السودان
1. في كلية الطب: يمكن استخدام سيناريو يتعلق بتفشي الملاريا في منطقة حدودية نائية. يُطلب من الطلاب تحليل العوامل البيئية، ووضع خطة تدخّل وقائية قابلة للتطبيق ضمن الموارد المحدودة.
2. في كلية الهندسة: مشكلة تتعلق بانقطاع الكهرباء في منطقة ريفية، ويكلف الطلاب بتصميم حلول مبتكرة للطاقة الشمسية بأسعار منخفضة.
3. في كلية الاقتصاد: تحليل أزمة سعر الصرف والتضخم في السوق السودان، وتقديم مقترحات ضمن بيئة اقتصادية وسياسية غير مستقرة.
دور المجتمع في دعم التحول نحو فلسفة تدريس جديدة
إن نجاح أي تحول في فلسفة التدريس والمناهج، لا يقع على عاتق الجامعة وحدها، بل يحتاج إلى تضافر جهود المجتمع بأكمله. يجب أن يدرك أولياء الأمور، ومنظمات المجتمع المدني، والقطاع الخاص، أن التعليم ليس مشروع وزارة أو جامعة فحسب، بل هو مشروع وطني جماعي.
يمكن للقطاع الصحي والمجتمعي دعم وحدات PBL عبر تقديم سيناريوهات واقعية من بيئة العمل، كما يمكن للمنظمات غير الحكومية تمويل مشاريع ميدانية، تتيح للطلاب تنفيذ حلولهم المقترحة في الواقع. الإعلام بدوره يمكن أن يلعب دورًا تثقيفيًا في ترسيخ هذه الفلسفة الجديدة لدى الجمهور.
رؤية مستقبلية للتعليم العالي في السودان
تخيل جامعة سودانية عام 2035، حيث يدخل الطالب، أول فصل دراسي ليجد نفسه ضمن مجموعة صغيرة تناقش مشكلة حقيقية مثل: كيف نُعيد تأهيل منشأة صحية متهالكة في منطقة نازحة؟ أو كيف نُصمّم نظام صرف صحي باستخدام مواد محلية؟ يتشارك في التفكير مع زملائه من تخصصات مختلفة، ويتنقل بين قاعة النقاش، والمجتمع المستهدف، والمكتبة، ويعود ليقدم حله في عرض تفاعلي يُقيّمه الجميع.
هذا المشهد ليس خياليًا، بل ممكن، إذا وُجدت الإرادة السياسية، والدعم المؤسسي، والتوجه التربوي الصحيح. ولعل الشراكات بين الجامعات السودانية ونظيراتها العالمية، وتوظيف التكنولوجيا، وتحديث التدريب التربوي لأعضاء هيئة التدريس، تمثل مفاتيح هذا التحول المنشود.
التعليم في السودان على مفترق طرق:
إما أن يستمر في اجترار نماذج الماضي، أو أن ينطلق نحو المستقبل برؤية جديدة تُعيد الاعتبار للطالب، وتربط الجامعة بالمجتمع، وتستثمر في الإنسان كأغلى مورد وطني. لقد آن الأوان لنودّع فلسفة التلقين، ونخوض تجربة التعليم التفاعلي، عبر نهج التعلم القائم على المشكلات وغيره من الأساليب الإنسانية التربوية الحديثة.
فالطالب السوداني يملك طاقات هائلة، لكنه ينتظر من يحفّز فيه شرارة الاكتشاف والبحث والتحليل. إن بناء مستقبل أكثر عدلًا واستقرارًا وابتكارًا، يبدأ من القاعة الدراسية. وما لم نُغيّر الطريقة التي نُعلِّم بها، فلن نُغيّر ما في واقعنا. وكما قال الفيلسوف جون ديوي: «إذا علّمنا طلاب اليوم كما علّمنا بالأمس، فإننا نسرق مستقبلهم». فلنردّ لأبنائنا المستقبل الذي يستحقونه، ولنبدأ من تغيير فلسفة التدريس من التلقين إلى التفكير النقدي.
شارك المقال