من أوبريت إلى بيان: محاكمة الفنانين بلا نهاية
Admin 15 فبراير، 2025 52
كيف نُفرّق بين النقد العادل والإقصاء؟

راني السماني
تشكيلي وملحن
تفكيك لخطاب عبد الجبار عبد الله (١ من ٣)
«الموسيقيان يوسف الموصلي وسيف الجامعة نموذجاً:حول ظاهرة غسل البشر وإعادة تدويرهم في أوساط الساسة والمثقفين والفنانين السودانيين»
أولاً، بين المحاسبة والوصاية الأخلاقية
لم يكن الفن في السودان يوماً مجرد مساحة جمالية منفصلة عن الواقع، بل ظل جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي والاجتماعي، حيث تتداخل الألحان مع الأحداث، وتتحول الأغاني إلى مواقف تُحسب على أصحابها.
فلحنٌ واحد قد يرفع فناناً إلى مصاف الأبطال، أو يجرّه إلى ساحة المحاكمة الأخلاقية التي لا تنتهي.
في مقاله المذكور، يتناول عبد الجبار عبد الله ما يسميه «إعادة تدوير الفنانين والمثقفين»، مُشيراً إلى موقف الفنانين يوسف الموصلي وسيف الجامعة من خلال مشاركتهم في «أوبريت جيشنا»، ثم توقيعهم لاحقاً على بيان صادر عن مجموعة (المبدعون السودانيون) يدعو إلى المحاسبة والمساءلة عن الانتهاكات الجارية في السودان.
وهي مجموعة كبيرة من المبدعين لها صفحة على واتساب، وتضم: مسرحيين، تشكيليين، مصممين، نقاداً، مترجمين، كتّاباً وصحفيين، شعراء، ملحنين، مغنين، وبالطبع موسيقيين.
المقال في جوهره يطرح سؤالاً مهماً: هل يحق لمن صمت أو تغنّى للسلطة في وقتٍ ما أن يعود الآن ليندد بانتهاكاتها؟
لكن هناك أسئلة أكثر عمقاً لم يطرحها الكاتب:
• هل كان الأمر مجرد موقف عابر، أم أن الأمر تكرّر مراراً، مما يجعل التراجع اليوم محاولة للتملص أكثر من كونه مراجعة حقيقية؟
• وهل من العدل أن نحكم على الفنانين والمثقفين بعزل أبدي، وكأن خطاياهم الماضية تُلغي حقهم في التصحيح أو إعادة تعريف أنفسهم؟
التناقض في رمزية الجيش
الكاتب عبد الجبار عبدالله ينتقد تمجيد الجيش في «أوبريت جيشنا»، لكنه في الوقت نفسه يتهمه بالتقاعس عن استعادة حلايب وشلاتين.
السؤال: هل المشكلة في تمجيد الجيش بحد ذاته، أم في الطريقة التي يُستخدم بها كأداة سياسية؟
وهل لو قام الجيش بدوره كما يراه الكاتب، كان سيمجَّد بدلاً من انتقاده؟
كما أن الكاتب استهل مقاله بأمثلة شعبية تتناقض مع النقد الذي يطرحه، حيث استدعى قصة المزارع عبد الحميد ليربطها بفكرة، «قناديل القمح الناشزة».
لكنه في الوقت ذاته يوظفها للتقليل من قيمة المساهمات الفنية، وهو تناقض واضح، لأن المثال لا يعكس بالضرورة جوهر النقد الفني، بل يبدو محاولةً لإضفاء طابع ساخر دون تقديم تحليل موضوعي لقيمة الأعمال الفنية المعنية.
ثانياً، عن الفن
والمواقف المتبدّلة
الفن ليس كياناً جامداً، والفنان ابن لحظته وسياقه.
على مرّ التاريخ، لم يكن الفن محايداً، ولم يكن الفنانون أنبياء منزّهين عن الخطأ أو التناقضات.
من أراجوزات السلاطين إلى شعراء البلاط، من مغني المقاومة إلى أولئك الذين ضاعت بوصلتهم في زحام المصالح، كانت المواقف السياسية للفنانين متغيرة، مثلها مثل مواقف السياسيين أنفسهم.
إذا كان المقال يدعو إلى المحاسبة والمساءلة، فهو يفترض أن كل فنان أو مثقف مسؤولٌ مسؤولية مباشرة عن كل كلمة قالها أو لحن أطلقه.
وهذا افتراضٌ صحيحٌ من حيث المبدأ، لكنه يُصبح إشكالياً حين يُطرح كقاعدة مطلقة لا تسمح بالتحول، وكأن الفنان الذي أخطأ مرةً يجب أن يُنفى فنياً وأخلاقياً إلى الأبد.
أليس التغيير والتطور جوهر الوعي؟
أليس الحق في المراجعة وإعادة النظر هو ما يميز الأحياء عن الأصنام؟

ثالثاً، المحاسبة بلا آلية واضحة:
نقد لطرح عبد الجبار عبد الله
في مقاله، يطالب الكاتب بمساءلة الفنانين والمثقفين، لكنه لا يقدّم تصوراً عملياً أو معايير واضحة لكيفية تحقيق هذه المساءلة، بينما يرفض ثقافة «عفا الله عما سلف»، وهو موقف مشروع من حيث المبدأ، إلا أنه لا يطرح بديلاً عملياً لمعالجة الأخطاء السابقة.
وهنا يبرز سؤال جوهري:
هل المطلوب هو الإقصاء التام لكل من أخطأ، بغض النظر عن حجم خطئه أو محاولته للتصحيح؟
أم أن هناك مساحة للمراجعة وإعادة التقييم وفق معايير عادلة؟
إن غياب هذا التفصيل يجعل الطرح يبدو وكأنه دعوة لمحاسبة عشوائية مفتوحة بلا ضوابط، مما قد يحوّلها إلى محاكم تفتيش أخلاقية لا نهاية لها، بدلاً من أن تكون عملية تصحيحية تدفع نحو مستقبل أكثر وعياً، مما يتناقض مع المبدأ الأساسي للعدالة، التي لا يمكن أن تكون انتقائية.
وهو ما يناقض كذلك الفكرة التي يدعو إليها كاتب المقال عبد الجبار عبد الله
أخيراً، ثقافة الإفلات
من العقاب: حلقة مفرغة من الفساد والخراب
نحن أيضاً نرفض ثقافة «عفا الله عما سلف»، التي اعتادت التغاضي عن الجرائم والانتهاكات وساهمت في تكريس الإفلات من العقاب، مما جعلها جزءاً من جذور الأزمة السودانية.
فهذه الثقافة أسست لدورات متكررة من الفساد والطغيان، كما ساهمت فيما تمر به البلاد اليوم من دمار وخراب.
لكن في المقابل، لا بد من التفريق بين أنواع الأخطاء والمسؤوليات.
فهناك فرق بين:
• من خطط ونفّذ جرائم قتل وانتهاكات جسيمة.
• وبين من استخدم أدواته الفنية لدعم النظام، لكنه أدرك خطأه لاحقاً وعاد لدعم الثورة.
المساءلة ضرورية، لكن يجب أن تكون قائمة على مبادئ العدالة، لا الانتقام.
وإلا وقعنا في نفس الفخ الذي وقع فيه النظام القديم، الإقصاء المطلق الذي لا يترك مجالاً للتطور أو المراجعة.
ويظل السؤال: هل يمكن دائماً أن نفرّق بين التوبة الصادقة والتلاعب السياسي؟
هذا ما سنتناوله في المقال القادم.
شارك المادة