
الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• شهد مطار الخرطوم الدولي دماراً كبيراً من قبل مليشيا الدعم السريع، لكن الأزمة الحقيقية تكمن في أن المطار كان يعاني منذ سنوات من مشكلات هيكلية، جعلته غير قادر على مواكبة النمو المتسارع في حركة المسافرين، والتي تجاوزت منذ فترة طويلة السعة التصميمية للمبنى الحالي المحدودة. فمع تزايد أعداد المسافرين عاماً بعد عام، أصبح المطار يعاني من اختناقات مزعجة، بينما لم تشهد منشآته أي تطوير جوهري منذ أعوام. فبات مطاراً دَوْلياً خاص بالدولة والسفر الداخلي. لكنه لم يكن دُوَلياً يخدم السفريات بين الدول، لافتقاره لأبسط مقومات المطارات الدُّوَلية.
في ظل الوضع المالي الصعب للدولة، والذي يحول دون تخصيص استثمارات حكومية كبيرة لتوسعة المطار أو بناء آخر جديد، يصبح اللجوء إلى القطاع الخاص خياراً ضرورياً. فكما حدث في تجارب دولية ناجحة، يمكن جذب مستثمرين لتمويل وتصميم وتشييد مرفق جديد بكلفة تتجاوز المئة وعشرين مليون دولار، دون أن تتحمل الدولة أي أعباء مالية. هذا النموذج الاستثماري أثبت نجاحه في أماكن أخرى، حيث تقوم شركات متخصصة – مثل شركة (daa Intl) الإيرلندية لإدارة المطارات – بتشغيل المنشآت الجديدة، بينما تنتقل ملكيتها في النهاية إلى الدولة، وهو ما يمثل مكسباً وطنياً صافياً.
وتتطلب الشركات المستثمرة عادة في مشروع كهذا، مجموعة من الضمانات الأساسية، لضمان جدوى المشروع، وحماية استثماراتها.
أولاً، تحتاج إلى ضمانات قانونية، تشمل استقرار التشريعات واللوائح المنظمة للقطاع طوال مدة العقد، التي قد تصل إلى 30 عاماً، مع توفير إطار تعاقدي واضح، يحدد حقوق كل طرف وواجباته. كما تطلب ضمانات مالية، مثل الحق في تحصيل رسوم الخدمات مباشرة، ومرونة في تعديل الأسعار وفقاً للتضخم، وإعفاءات ضريبية وجمركية مؤقتة على المعدات المستوردة.
من الناحية التشغيلية، تسعى الشركات للحصول على حقوق إدارة شاملة للمطار، تشمل جميع الخدمات من أمن إلى متاجر، مع ضمان عدم منافسة مطار آخر قريب للمشروع لفترة زمنية كافية. كما تطلب ضمانات تتعلق بالبنية التحتية، تشمل تخصيص الأرض بأسعار تفضيلية أو مجانية، والتزام الحكومة بربط المطار بشبكة طرق متطورة، وتوفير المرافق الأساسية من كهرباء ومياه.
على الصعيد السياسي، تحتاج الشركات إلى ضمانات تحويل الأرباح بالعملات الأجنبية دون عوائق، واتفاقيات حماية استثمار مع دولها الأصلية. كما قد تلجأ إلى مؤسسات التمويل الدولية، لتأمين استثماراتها ضد المخاطر السياسية والكوارث الطبيعية. كل هذه الضمانات تهدف إلى تحقيق توازن بين مصلحة المستثمر في تحقيق عائد مناسب، ومصلحة الدولة في تطوير بنية تحتية استراتيجية، دون تحميل الخزينة العامة أعباء مالية جديدة.
والحل الآخر المتاح عملياً، هو أن الأراضي الشاسعة للمطار الحالي – إذا ما بيعت – يمكن أن توفر تمويلاً ذاتياً للمشروع الجديد، بل وتدر عائداً يفوق تكلفة البناء. كما أن المطار الحديث سيكون قادراً على استقطاب شركات الطيران منخفضة التكلفة، مع مدارج قادرة على استقبال الطائرات العملاقة. وتوفير بنية تحتية متكاملة، تشمل مناطق تجارية وخدمات لوجستية متطورة. مع إمكانية التوسع المستقبلي، وفقاً للنمو المتوقع في حركة الطيران. كما أن ذلك يعمل على تعزيز الحركة السياحية، وتأمين فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لآلاف المواطنين، دون أن يثقل كاهل الخزينة العامة.
إن تدمير مطار الخرطوم الدولي، رغم كونه خسارة كبيرة، يمثل فرصة ذهبية لإعادة تطوير قطاع الطيران في السودان.
المشروع المقترح ليس مجرد بديل عن المطار المدمر، بل فرصة لمعالجة الاختلالات الهيكلية القديمة. فموقع المطار الحالي داخل الأحياء السكنية، يسبب إزعاجاً للسكان بسبب الضوضاء، كما يعوق التوسع العمراني، ويخنق الحركة المرورية. بينما يمكن لموقع جديد خارج العاصمة أن يحل هذه المشكلات، مع توفير مساحة استيعابية إضافية، وحركة انسيابية تخفف الازدحام في صالات السفر.
فما لحق بمطار الخرطوم لم يكن سوى تتويج لإهمال طويل الأمد. أما اليوم، فلدينا فرصة تاريخية لبناء مرفق عصري يليق بموقع السودان الاستراتيجي، عبر نموذج تمويل ذكي، أو تمويل ذاتي (بيع أراضي المطار القديم)، يحوّل التحدي إلى منفعة اقتصادية دائمة. فهل نغتنمها؟
شارك المقال