مصر والسودان.. واللعب على حبال الدم

657
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• في الفلسفة السياسية للاستلاب الجغرافي، تُقرأ السياسات الاستراتيجية من ثنايا التناقضات لا من وثائق التصريحات، ويُستشف المقصد الحقيقي من فجوة الأقوال والأفعال لا من صدق النيات المزعومة. فمصر التي تصرّح بأن «أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمنها القومي» هي ذاتها مصر التي تُحوِّل هذا الجزء إلى مُجزّأ في بورصة المصالح، وتجعل من الوحدة السودانية «خطاً أحمر» تنسج تحته حبال مكائدها، وتُشيِّد على الأرض السودانية «خطوطاً خضراء» للربح والنفوذ.


الحبل الأول: الرباعية كمنشار من ذهب


تقول مصر إنها تدعم الرباعية الدولية لإيقاف نزيف السودان، لكنها في الحقيقة تدعم «الهدنة» كأداة لتثبيت حالة «لا سلم ولا حرب»، وهي الحالة الأمثل لاستنزاف دولة إلى حد الفناء البطيء. فمصر الرسمية تعلم أن السلام الحقيقي يعني استقلال قرار سوداني قوي، وأن الحرب الشاملة تؤدي إلى انهيار سريع قد يفلت من بين أصابعه. أما الحالة الوسطى فهي «المنطقة الرمادية» حيث يبقى الجيش السوداني مشغولاً بالدفاع، وتحافظ الميليشيا على أرض ونفوذ، وتظل كلتاهما في دوامة الضعف المتبادل.
هذا هو النموذج الليبي الذي تريده مصر.. دولة مقسمة بين شرق وغرب، وميليشيا جديدة مستنسخة من حفتر، وأرض تتحوّل إلى ميدان اختبار للسلاح واستنزاف للثروات. فمصر التي تدّعي الحرص على السيادة السودانية تُمثِّل في ليبيا النموذج التجريبي لتقسيم السودان، وتُعيد إنتاجه على أرض الواقع السوداني بأدوات إماراتية وتغطية أممية.


الحبل الثاني: المنال الإماراتي والمكر المصري

إنها «الشراكة الشيطانية» والعهد الغادر، بين منفق الذهب ومجيب الأوامر بأنامل الفضة، تستقبل القاهرة «العطاء المدهش» من حاكم أبوظبي، وهي تدرك إدراك المحيط أنه «وقود الفتنة» وثمن السكوت على حرب تحرق قلوب السودانيين، وأن الإمارات هي الأم المرضعة لميليشيا آل دقلو، لكنه التواطؤ المربح والكسب المتناول الذي قد لا يتكرر ولا يعاد، فالإمارات خائنة للعهد وقد لا تصادف هذه السانحة.
فمصر الرسمية تتقن فن التورية لدرجة الإجادة، فهي تعلن عن «خط أحمر» للتقسيم، بينما تترك «المثلث الحدودي» مرتعاً لطفلها حفتر ومرتزقته، وتصرّح بأنها لا تسمح بإمداد الميليشيا، بينما ينقل السلاح والمقاتلون عبر الكفرة الليبية تحت إشراف حفتر وبعلم القاهرة.. وتعلن وقوفها مع الشعب السوداني، بينما «تمنح» تأشيراتها بـ (2000) دولار لكل سوداني (شقيق).. فيا لها من أخوة «غالية».. ولا تبني معسكراً واحداً للاجئين، بل تجعل منهم مستهلكين ومستأجرين يُنفقون ما تبقى من أموالهم في اقتصادها.


الحبل الثالث: المثلث كمدخل للجحيم

الكفرة هي اليوم «عاصمة المرتزقة»، والمثلث السوداني الليبي المصري هو البوابة العليا لإدخال الفوضى. فهناك، في تلك الصحراء المنسية بفعل فاعل، تُجمَّع المجاميع من كل أديان الأرض وأعراقها ومشرديها.. من تشاد ومالي والنيجر وبوركينا، يدفع لهم بالدولار الإماراتي، يُجهَّزون بالسلاح الروسي، يُحوَّلون عبر الطائرات الإماراتية، ويُنشرون في السودان تحت قيادة مليشيا الخراب.
والغريب أن 300 من كل 400 سيارة محمّلة بالمقاتلين تتجه مباشرة إلى المثلث، وهو المنطقة التي تعدها مصر جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي،! فكيف يعقل أن تكون منطقة الأمن القومي هي نفسها منطقة التسلل والتخريب؟ وينعدم فيها الشوف وتزيغ عنها أبصار مصر العظيمة.
الإجابة في «الاستهبال» السياسي.. إنها «منطقة عازلة» تُبقي السودان مشغولاً عنها، و«منطقة امتصاصٍ» تُفرغ فيها مصر فائض عبء المقاتلين المرتزقة حتى لا تُهدّد ليبيا، و«منطقة إلهاء» تشغل الأراضي عن الاستغلال، فتستعد هي لزراعة (مليون فدان) في شمال السودان عندما تستقر الفوضى.


الحبل الرابع: الرباعية كغطاء للجريمة


تصر مصر على البقاء في الرباعية، لأنها تعلم أن الهدنة هي هدنة الضعفاء، وأنها لا تعني إلا تثبيت الواقع الجديد. فهي ترفض تصنيف «الميليشيا» منظمة إرهابية، لأن ذلك يعني قطع الخيط الوحيد الذي تُمسك به مع الإمارات، وتفضح «العميل» الذي تُديره خلف الكواليس.
وهي فقط تمارس فن الإطناب في التصريحات، وتبيع الأوهام لجيرانها وتقبض الدراهم بعيداً عن أعينهم. فمصر تُريد من الرباعية غطاء تختفي وراءه بينما تمارس سياسة الحفاظ على الوضع.
إنها لعبة الأمم على أوتار دم سوداني… الإمارات تدفع، وحفتر يُنفذ، وأمريكا تراقب، والسعودية تتحرك بهدوء، ومصر تجني الأرباح. فهي تربح من السمسم والفحم القادمين من القضارف، ومن الصمغ العربي، ومن الشاحنات المحملة جيئة وذهاباً، ومن التأشيرات، ومن عقود الإعمار الآتية، ومن الأرض الزراعية والمياه، ومن اللاجئين المستهلكين. ومن جعل السودان برمته سوقاً احتكارياً لمنتجاتها.
وهي تعلم أن ميليشيا آل دقلو هي الحصان الخشبي الذي يخفي داخله المرتزقة الأجانب، وهم من قبضوا على جنودها في مروي، وأذلوهم ومرَّقوهم بالتراب والسباب، عندما لم يكن هناك خطاً أحمر.. وتعلم أن الهدنة هي وقت استراحة لإعادة التموضع، وأن المثلث هو البوابة السرية لإدخال الفوضى. لكنها تتظاهر بالجهل؛ لأن الجهل السياسي هو الحصانة الدبلوماسية التي تتيح لها تناول الثمار دون قطع الشجرة.
فأيُّ حرص هذا الذي يترجمه المصري بإبقاء السودان دولة فاشلة؟ وأي دعم هذا الذي يقيم فيه المصري منشار الرباعية، ليقطع أوصال السودان بأيدي مرتزقة لكن بأوامر مصرية إماراتية؟
إنها التوازنات الرخوة، التي لا تحفظ الدول بل تقتلها، والسياسة البراغماتية التي لا تبني الأمم بل تنهبها. ومصر التي تُصرِّح بـ«الخطوط الحمراء» هي نفسها مصر التي ترسم خطوطاً ملتوية على خرائط الثروات السودانية.
متى يدرك الشعب السوداني أن «الجار الحنون» قد يكون «الأخ الأكبر» و«ابن النيل» الذي يريدك ضعيفاً لتبقى تحت رحمته، وأن «الدعم العربي السريع» قد يكون السم في العسل، وأن الهدنة قد تكون آخر خطوة نحو القبور الجماعية للأحلام؟
الإجابة في (الطَّلَس) السياسي.. إنك لا تُحارب بالأقوال، بل بالأفعال، ولا تبنى الدول بالسذاجة، بل بالمواقف الصارمة، ولا تُحمى الثروات بالدعوات، بل بقطع الحبال التي تُعلِّقك في منصة الإعدام. فإما أن تكون السيف وإما تكون «المسكنة» التي تعلق على حبال مشنقة الاستقرار المصري.
قديماً سمعنا بفن اللعب على حبلين، أما اللعب على أربعة، فهذا ابتداع جديد وحصري، لا يمكن أن يكون إلا إحياء لفتنة رباعية الأركان.
وأنا أطرح نقاطي الأربع كخيار وجودي، لكن الرباعية تريد أن تحولها إلى «قدر مُعلّب»، يحدد مصير الضحية والجلاد في معادلة واحدة… وهذا هو العبث بعينه.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *