(محمد‭ ‬عبده‭ ‬يعانق‭ ‬إبداع‭ ‬إدريس‭ ‬جماع‭(‬ تكريم للفن السوداني أم اختلاف في الأسلوب

94
راني السماني1

راني السماني

تشكيلي وملحن

• أولاً، لا شك أن الفنان السعودي الكبير محمد عبده يُعد من رموز الغناء العربي، فهو صاحب بصمة فريدة في تطوير الأغنية الخليجية والعربية بشكل عام، ورجل يحمل إرثاً فنياً ضخماً يتجاوز حدود بلاده.  

فعندما يقرر فنان بهذا الحجم تقديم عمل لفنان سوداني بحجم سيد خليفة، مستنداً إلى كلمات شاعر بقيمة إدريس جماع، فذلك ليس مجرد أداء عابر، بل هو تكريم للثقافة السودانية واحتفاء بإرثها الموسيقي والأدبي.

ثانياً، الفنان محمد عبده وتقديمه «أعلى الجمال تغار منا»

في ظل الظروف العصيبة التي يمر بها السودان اليوم، اختار محمد عبده أن يبعث برسالة تقدير ومودة إلى الشعب السوداني، عبر إعادة تقديم أغنية «أعلى الجمال تغار منا»، وهي من كلمات إدريس جماع، وقد قدّمها بصوته أيضاً،الفنان سيد خليفة. 

هذه الخطوة، وإن بدت بسيطة للبعض، فإنها تعني الكثير لمحبي الفن السوداني، لأنها تسلط الضوء على أحد أعمدة الشعر السوداني، وتعيد تسليط الضوء على أحد رموز الغناء في السودان.

يقول إدريس جماع في هذه القصيدة الخالدة:

‮«‬أعلى‭ ‬الجمـــال‭ ‬تغـار‭ ‬منّا

مـــــاذا‭ ‬عليـــــــك‭ ‬إذا‭ ‬نظــرنا

هي‭ ‬نظرة‭ ‬تنسي‭ ‬الوقار

و‭ ‬تســعــد‭ ‬الروح‭ ‬المعنّى

دنيــــــاي‭ ‬أنـــــــت‭ ‬و‭ ‬فرحتـــــي

و‭ ‬منى‭ ‬الفؤاد‭ ‬إذا‭ ‬تمنّى

أنت‭ ‬الســماء‭ ‬بــــــدت‭ ‬لنـــا

و‭ ‬اسـتعصـمـــــت‭ ‬بالبعـد‭ ‬عنّا

هـــــلا‭ ‬رحــمـــــــــــــت‭ ‬متـيــمـــــــاً

عصفت‭ ‬به‭ ‬الأشواق‭ ‬وهنّا

و‭ ‬هفــــــــت‭ ‬بـــــــــه‭ ‬الذكــــــــرى

و‭ ‬طاف‭ ‬مع‭ ‬الدُجى‭ ‬مغنى‭ ‬فمغنى

هـزتـــــــه‭ ‬مـنــــك‭ ‬محاســــــــن

غنّـى‭ ‬بهـــــــا‭ ‬لمـــــــا‭ ‬تغنّـى

آنســـــت‭ ‬فيـــــــك‭ ‬قداســـــة

و‭ ‬لمست‭ ‬فيك‭ ‬إشراقاً‭ ‬وفنّا

و‭ ‬نظــــــرت‭ ‬فــــــي‭ ‬عينيـــك

آفاقـــــاً‭ ‬وأســــــراراً‭ ‬ومعنــى

و‭ ‬ســمعت‭ ‬ســحرياً‭ ‬يــــذوب

صداه‭ ‬في‭ ‬الأسماع‭ ‬لحناً

نلت‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬الهوى

و‭ ‬رشــــــــفــتـها‭ ‬دنّـــاً‭ ‬فدنّـــا‭.‬‮»‬

لكن في المقابل، أثار هذا العمل بعض التحفظات لدى بعض المستمعين السودانيين، حيث اعتبروا أن أداء محمد عبده لم يكن وفياً للأصل، نظراً لاختلاف الأسلوب الموسيقي بين المدرستين الخليجية والسودانية، ما جعل البعض يشعر بأن الأغنية قد «فقدت روحها»، وهنا يكمن الالتباس الفني الذي يحتاج إلى توضيح.

فأن، الاختلاف بين السلم السباعي والسلم الخماسي، اختلاف مدارس وليس تشويهاً.

يعتمد الطابع الموسيقي السوداني بشكل أساسي على السلم الخماسي، وهو سلم يتألف من خمس نغمات فقط في الأوكتاف الواحد، ويمنح الموسيقى السودانية طابعها الفريد المميز، حيث يعتمد على تنقلات لحنية محددة تتماشى مع الذائقة السودانية.

أما محمد عبده، فهو ابن المدرسة الغنائية الخليجية التي تعتمد على السلم السباعي، وهو الأكثر شيوعاً في الموسيقى العربية الكلاسيكية، ويتيح مجالاً أوسع للتنويع اللحني والتعبير الموسيقي المختلف. 

الفنان محمد عبده قدم الأغنية بروحه وبأسلوبه وبلحن مختلف تماماً، وليس بأسلوب سيد خليفة. 

وهذا بالتالي لا يعني تشويهاً، بل تفسيراً مختلفاً للعمل الفني، يتناسب مع أدواته وإحساسه الفني.

كما أنه يتناسب مع الجمهور الخليجي والعربي، وهو الجمهور الأكبر المستهدف في هذا العمل، خاصة وأن الأغنية لم تُقدَّم على خشبة مسرح قاعة الصداقة، ولا في نادي الضباط، أو استاد الخرطوم، مما يؤكد أنها كانت موجهة بأسلوب يلائم الذائقة الموسيقية لجمهور مختلف، دون أن تنتقص من قيمتها الأصلية.

أخيراً، في ظل الوضع الحرج الذي يمر به السودان، حيث تعاني البلاد من حرب طاحنة بين الجيش وقوات الدعم السريع، كان بإمكان محمد عبده أن يتجاهل المشهد تماماً، لكنه اختار أن يرسل رسالة حب واحترام عبر الفن. 

هذه اللفتة البارعة تستحق التقدير، فقد أعاد من خلالها تسليط الضوء على الشاعر إدريس جماع، الذي قد لا يكون معروفاً على نطاق واسع خارج السودان، وهذه فرصة لتعريف الجمهور الخليجي والعربي به أكثر. 

من ناحية أخرى، لم يدّعِ محمد عبده أنه يؤدي الأغنية كما قدمها سيد خليفة، بل قدمها بطريقته، وهذا أمر طبيعي في عالم الموسيقى، حيث يتم استلهام الأعمال وإعادة تقديمها بأساليب مختلفة دون أن يُعدّ ذلك إلغاءً للأصل.

ختاماً، دعونا نحتفي بالفن، لا أن نقيّده

الفن لغة تواصل بين الشعوب، وما فعله محمد عبده هو مدّ هذا الجسر بين الخليج والسودان، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع طريقته في الأداء، فإن مبادرته نابعة من تقدير وحب، وهذا ما يجب أن نحتفي به بدلاً من رفضه.

كل التحية والتقدير للفنان الإنسان محمد عبده، ولكل من تفاعل مع هذا العمل الذي كرّم الشاعر الكبير إدريس جماع وأعاد تسليط الضوء على إرثه الفني.

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *