
أبوبكر عبدالغني محمد
كاتب صحفي
• كان والدي -رحمه الله- عاملاً بسيطاً، تدرج في العمل حتى بلغ رتبة مشرف، وهي درجة إدارية وفق الهيكل الوظيفي في المؤسسة الفرعية للحفريات، التي كانت رئاستها في ود مدني.
سقتُ هذه المقدمة لأشير إلى أننا أبناء عمال غابوا كثيراً عن بيوتهم، حتى إذا ما عادوا إلينا، جاءوا تحت مسمى بند «الرفاهية»، وهي إجازة لا تتجاوز خمسة أيام… نعم، لقد عمل الآباء في كل مشاريع التنمية، وشقوا الترع والقنوات المائية طولاً وعرضاً، فكان نتاجهم زرعاً يزهو، وقمحاً ينمو، وخضرة تبهج النفوس…
كنا نحسب تلك الأيام الخمسة على أصابعنا، ونحن صغار نتمنى ألا تنتهي. كانت أياماً كلها حنان وحب، رفاهية بحق وحقيقة، تنقلب فيها الأحوال رأساً على عقب: الوجبات طازجة شهية، معدة بعناية، والبيوت الصغيرة تضج بالضحك والبهجة، تتنفس من «الرواقة» والنظافة والترتيب المتقن، والكل منضبط في مواعيده… كيف لا، وقد وصل سيد البيت، وملأ الدار هيبة، و«الكاش» قد حلّ، والأجواء أصبحت مثالية، كلٌّ منهمك في مذاكرته…
أما الوالدة، فكانت في قمة إدارتها وثقتها، مسنودة بزوج سيحمل تعبها ولو لخمسة أيام… ولكن سرعان ما تنقضي أيام الرفاهية، وقبل يومٍ من نهايتها، تبدأ الاستعدادات للرحيل المر. وهنا يبدأ العد التنازلي لصرامة الوالد، وتظهر بوادر الحنان والتعليمات والوصايا: «خلوا بالكم من المذاكرة!»، ثم يتابع موضحاً: «سيأتي يوم تتحملون فيه المسؤولية… خلوا بالكم من أمكم… اسمعوا كلامها… ابتعدوا عن المشاكل… عاملوا الناس باحترام».
أما الكبار منا، فكانت لهم وصية خاصة تردد بحسم: «ابتعدوا عن السياسة، واجعلوا همكم مستقبلكم وخدمة هذا الوطن». وكثيراً ما كان يردد: «أشهد الله أننا ربيناكم بالحلال، كله من صلب هذا الوطن، فاجعلوه في حدقة العين… لا تخونوه بالإهمال أو بترك المذاكرة والطموح، فأنتم أمل الوطن… فالأوطان لا يبنيها إلا أبناؤها».
كان الوالد فخوراً بنا، ونحن أربعة أبناء، كلنا عملنا في الدواوين الحكومية… فالكبير وصل إلى رتبة مدير عام، والأخت عملت معلمة حتى نزلت المعاش، والأخ الآخر ما زال معلماً في المرحلة المتوسطة حتى اليوم. أما أنا، فقد عملت في بنك حكومي، وكنت أصغرهم… وأعترف بأنني خذلته حين تركت الوظيفة الحكومية لطموحي في القطاع الخاص. وكان دائماً يقول لي: «سيأتي يوم تندم فيه، حتى لو ملكت مال قارون». وأصدقكم القول… لقد ندمت.
رحل الوالد، ربان تلك السفينة، وكالعادة وقفنا جميعاً بجانب الوالدة، وسرنا على نفس نظام «الرفاهية»… لكن سرعان ما تعود «حليمة» إلى عادتها القديمة. إلا أن هناك من يسد الفراغ… آباء يبقون في الورشة أو الرئاسة القريبة من السكن، أو ما نحب أن نسميه «الكمبو»…
الكمبو هو عبق الأرض… فكيف لا؟
البيوت فيه متراصة، بحيث يكون لكل أسرة جار على اليمين وآخر على اليسار… كنا نحن -أسرة الوالد- محظوظين، فكان لنا أربعة جيران، نظراً لوظيفته التي أهلته لبيت أكبر…
جار دنقلاوي، وآخر نوباوي، وثالث رزيقي، ورابع فوراوي… وكذلك كان الحال مع الجيران الآخرين: محسي، وشايقي، وشكري، ومن قرى الجزيرة بكل ألوانها… فكان سوداناً مصغراً، يجمعهم العمل دون عنصرية… كنا أحياناً لا نعرف قبيلة «عم إبراهيم»، لكننا كنا نعرف أهل الشرق من لكنتهم، وكانوا فاكهة الكمبو…
جمعتنا الإلفة والعمل والجيرة والتكاتف… وكنا نستمتع بالمناسبات، لأنها تعكس تراث القبائل، ونحن نتفاعل معها بفرح… أهل الكمبو كانوا أهلاً لنا، تجدهم في السراء والضراء… تحس بقيمة الأرض ورائحتها، لأنها أرض الوطن…
كنا ننظر إلى إخوتنا المهتمين بالسياسة نظرة مختلفة، لأننا نرى أن هذه الساحة تحتاج إلى جرأة فائقة… كانوا يطمحون إلى آفاق بعيدة، ويُظهرون حباً عميقاً للوطن، ويطالبون بفرص التطور… كانوا مؤمنين بالحرية، متحلّين بأخلاق عالية، لا يخلطون بين الإخاء والعمل السياسي، ولا يقلِّلون من شأن أحد…
كانوا قادة بالفطرة، يجيدون التنظيم والخطابة، يعشقون الليالي الثقافية، ويجتمعون للإصلاح، ويضحون في سبيل قدسية الوطن…
كنا نحب السياسة والسياسيين… كنا نحترم بساطة عبد الرحيم محمود، وفراسة نميري، وتضحيات نقد، وبلاغة المهدي، ونضالات قرنق، وبسالة الزبير… حتى فيليب غبوش كان يُثير إعجابنا.
السياسة في وطني كانت ناعمة وصارمة في آنٍ واحد، لكن في الحالتين، كانت قدسية الوطن حاضرة بقوة…
نحن اليوم بحاجة إلى مراجعة حساباتنا، لنعود إلى «نعومة» سياستنا، ونكون قدوة للأجيال القادمة، رافعين شعار «الوطن خط أحمر»… حكومة ومعارضة، يتنافسون جميعاً لرفعته ونهضته، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه…
وستبقى قواتنا المسلحة صمام الأمان، حتى ننهض من جديد، فنحن أهل الريادة…
هذا الوطن يحتاج إلى وطنيين تكنوقراط…
وللحديث بقية.
شارك المقال